الدولة التي زحفت بجيوشها على منطقتنا العربية لتلقي على مسامعنا محاضرات عن الديمقراطية والحكم الصالح واقتصاد السوق الذي يبني مجتمعات غنية لا فقر فيها ولا عوز... تلك الدولة تقف اليوم وإمبراطورها أمام العالم وهي عريانة بلا ثياب تستر عورتها وعارها. اللهم لا شماتة، لكن دعنا نلحظ المآسي التالية في هذا البلد المنكوب:
1- إعصار قوي يضرب إحدى المدن في ذلك البلد الأكثر تطوراً في التكنولوجيا والأكثر وفرة في الإمكانيات والغنى في عالمنا. أمام الإعصار تنهار السدود التي تحمي المدينة من أمواج البحر لتغرق المدينة وأهلها في الماء والوحل ولتعرِّي في الوقت نفسه تشوُّهات ذلك الجسد الذي كانت تغطِّيه بالمساحيق والأقنعة آلة الإعلام الرهيبة. فيتبيَّن أن المدينة كانت قد طلبت مبلغاً من المال لا يزيد على حوالى سبعين مليون دولار لتقوية تلك السدود. لكن القائد، الذي يصرف في حربه على العراق كل يوم مبلغ مئة وثمانين مليون دولار، اختزل المبلغ المطلوب إلى النصف والنتيجة هي موت الألوف وتشريد مئات الألوف من سكان تلك المدينة. وبدلاً من أن ينزوي القائد ومساعدوه خجلاً كما يفعل المسؤولون الكبار في ضمائرهم تبدأ حملة علاقات عامة لتبرير التقصير وخطابات الدَّجل التي طبعت الحياة السياسية عبر العصور.
2- وتزداد الفضيحة عندما يتبيَّن أن مقالات قد كتبت منذ ثلاثة أشهر تحذر من أن سدود تلك المدينة لن تصمد أمام إعصار شديد وأن عدم تقويتها سيؤدي إلى كارثة محققة. وإذا كان تبذير المال العام على مغامرات خارجيَّة قد قاد إلى توفير في الداخل في غير محلّه، فإن انشغال ذهن المسؤولين بقراءة التقارير اليومية عن مغامراتهم في أجزاء كثيرة من العالم لم يبق لهم شيئاً من الوقت والمقدرة على قراءة ما يكتب عن الداخل. والتاريخ يعلمنا أنه ما إن انشغلت أية إمبراطورية أو دولة في العالم بالخارج، بشكل جنوني وللرغبة في النَّهب والسَّلب، إلا وكان ذلك على حساب الدَّاخل وعلى حساب فقراء الداخل على الأخص.
3- لقد أظهرت كارثة تلك المدينة حجم وحلكة جيب الفقر فيها بل وأشارت إلى جيوب الفقر في المدن الأخرى، تلك الجيوب التي تتسع وتمتلئ بالقبح كلما ازداد توحّش العولمة التي يقودها أنصار اليمين الأصولي من رؤساء الشركات والبنوك ليزدادوا هم وقلَّة صغيرة معهم غنىً وليزداد فقراء ذلك البلد فقراً. ولقد رأى العالم كيف نجا الأغنياء بأنفسهم وبقي الفقراء يصارعون الجوع والعطش والمرض والعري والجريمة لوحدهم. ولقد تبَّين أن حوالى عشرة آلاف من أبناء المدينة والمنطقة المنكوبة كانوا في العراق بدلاً من أن يساهموا في مساعدة منكوبي منطقتهم وهكذا، و مرّة أخرى، كان للمغامرات الخارجية أثرها السَّلبي على حاجات الداخل.
هذه الدولة لا تستطيع أن تعلّمنا الحكم الصالح فالكارثة أظهرت أنه ليس فيها حكم صالح، ولا تستطيع أن تعلّمنا بناء اقتصاد الوفرة وأن نحافظ على نتائجه بحكمة وحرص لأنها أصبحت متخصِّصة في بعثرة ثروتها على مغامرات لا جدوى منها وفي البخل الشديد على فقرائها. ولا تستطيع أن تعلِّمنا الديمقراطية طالما أن ديمقراطيتها وقفت عاجزة عن محاسبة من يخطئون ويغامرون بجهل.
أما وإن تلك الدولة قد أقحمت نفسها في كل شؤوننا، في أمور ديننا وتعليمنا واقتصادنا وعلاقات مجتمعاتنا وأمننا وثقافتنا، فقد أصبحت هي الأخرى هدفاً لحكمنا على كل شاردة وواردة فيها، فإذا عطست تلك الدولة نصاب نحن بالالتهاب الرِّئوي.
سؤال لابدَّ من طرحة: هل ستأخذ الليبرالية العربية الجديدة، وليدة الأصولية اليمينيَّة في ذلك البلد وشَارِبة حليبها، العبرة وتتعلَّم الدرس من ملابسات تلك الكارثة الإنسانية؟ نرجو ذلك.