تداولت بعض وسائل الإعلام المحلية مؤخراً إحصاءات تشير إلى أن نسبة التحاق خريجي الثانوية العامة بمؤسسات التعليم العالي بلغت 95% للطالبات و80% للطلاب. ولاشك في أن هذه النسب من أعلى المعدلات العالمية، إن لم تكن أعلاها على الإطلاق، مما يعكس تغيرا جوهريا في توجهات شباب المواطنين، وتحولا مهما في النزعة الاستقلالية التي كانت تدفع العديد منهم لترك التعليم في المرحلتين الإعدادية والثانوية للالتحاق بسوق العمل مبكراً. إلا أن هذا التحول الكمي المطلوب، والذي فرضته في المقام الأول جملة من المتغيرات المحلية والخارجية، يأتي في ظل اختلال التوجهات التخصصية لطلبة التعليم العالي في الدولة، وعدم ملاءمتها لاحتياجات سوق العمل، بل إن مؤسسات التعليم العالي بوضعها الحالي لا يمكن أن تلبي احتياجات سوق العمل من المواطنين في العديد من المهن والتخصصات التي تشكل معضلة أساسية تواجه التوطين. وأبعد من ذلك فإن السياسة التعليمية المنفصلة بشكل شبه كامل عن توجهات سوق العمل المحلي ومتطلبات برامج التوطين في الدولة قد تفاقم من ظاهرة البطالة التي أصبح أغلبية أفرادها من الخريجين، أصحاب التخصصات النظرية، التي تستوعب أكثر من ثلثي طلبة التعليم العالي حاليا، بينما يظل سوق العمل المحلي بحاجة متزايدة إلى التخصصات التطبيقية، حيث لم يعد من الممكن توطين هذا السوق من خلال زيادة عدد الخريجين، وذلك لأن المشكلة في الأساس تجاوزت المفهوم الكمي إلى المفهوم النوعي. كما أن هذا الخلل النوعي في توجهات طلبة التعليم العالي يدفع المواطنين إلى العمل في القطاعات الحكومية والعامة، مسببا خللا آخر متمثلاً في التوزيع القطاعي لقوة العمل المواطنة، حيث تستوعب هذه القطاعات أكثر من 90% من المواطنين العاملين، تاركة القطاع الخاص بأكمله تقريبا لهيمنة العمالة الوافدة.
إن تنمية الموارد البشرية عملية مستمرة ولكنها متجددة أيضا، فهي لا تسير بوتيرة واحدة وإنما تشكل كما وكيفا ومضمونا، وفقا لمتطلبات كل مرحلة على حدة. وهذا هو جوهر القضية برمتها، حيث تبرز عملية تطوير المحتوى التعليمي والتدريبي لقوة العمل المواطنة كأحد أكبر التحديات الاستراتيجية التي تواجه الدولة في مجال تطوير العلاقة بينها وبين سوق العمل. وعملية تطوير هذا المحتوى تتضمن قضيتين أساسيتين يجب فصلهما بوضوح ودقة، حيث إن لكل منهما مهام ومتطلبات مختلفة إن كان على مستوى السياسات أو على مستوى الإجراءات، فالأولى تتعلق بالكفاءة الداخلية للنظام التعليمي والتدريبي في الدولة وترتبط بمسألة تطوير النوعية، من حيث المستوى والتخصص، أما الثانية فتتعلق بالكفاءة الخارجية للنظام التعليمي والتدريبي، أي توجهاته بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل. إن مستقبل التعليم العالي يتوقف على ضرورة وجود سياسة تعليمية شاملة واضحة المعالم والأهداف، تحدد من خلالها مدخلات ومخرجات المؤسسات التعليمية بما يتوافق مع احتياجات سوق العمل مستقبلا، ما يتطلب بدوره من مؤسسات التعليم العالي تبني رؤية استراتيجية بعيدة النظر في قراءتها لمتطلبات هذا السوق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية