إذا أردنا تقييم مسودة الدستور العراقي فإنه يتعين القيام بذلك على أساس معيارين: الأول ما يكرسه من استحقاقات في مجال الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ثم الهياكل السياسية التي يقترحها كصيغة متوافق عليها لمستقبل العراق. أما المعيار الثاني فهو تحول هذه المسودة إلى ميثاق وطني يصهر كافة العراقيين في بوتقة الوطن ويسهم في إضعاف حركة التمرد. وبينما نجح الدستور العراقي الجديد في الالتزام بالمعيار الأول، يبقى الثاني رهن الاستفتاء الذي سيجرى في 15 أكتوبر، حيث سيقرر العراقيون ما إذا كانوا سيجعلون من المسودة ميثاقهم الوطني الجديد.
وعند النظر إلى مسودة الدستور نجده يتضمن قيما روحية وهياكل سياسية من شأنها أن تزف العراق إلى عرس الديمقراطية، فضلا عن الاستقرار الدائم والحرية والازدهار. فهو يجمع في طياته، وعلى نحو مستنير، بين القيم الكونية الراسخة والتقاليد العراقية الأصيلة. وعلى سبيل المثال لا تجيز مسودة الدستور سن أي قانون يخالف "أحكام الدين الإسلامي الثابتة" أو يناقض "مبادئ الديمقراطية" ولا "الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور". ولتثبيت حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية تحيل الصيغة التي تتحدث على الإسلام إلى ضرورة تفسيره على أساس مطابقته للديمقراطية والحرية. والأكثر من ذلك تنص مسودة الدستور على أن جميع العراقيين سواسية أمام القانون بصرف النظر عن "الجنس والعرق والقومية والأصول واللون والدين والطائفة والمعتقد أو الرأي، ثم الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي". علاوة على ذلك تكفل مسودة الدستور حق الحرية الشخصية وحرمة البيوت وضمان تمتع المتهمين بمحكمات عادلة. كما جاء الدستور ضامناً لحرية التنقل والتعبير والاجتماع وإقامة التنظيمات السياسية. هذا وتنص المسودة على مبدأ مهم وأساسي في المجتمعات الديمقراطية يتمثل في براءة المتهم حتى تثبت إدانته. وفي هذا السياق كان الدستور قاطعا في تحريم المحاكمات خارج نطاق القضاء، أو إنزال العقوبات الجماعية بالمواطنين، كما حظر على نحو جازم مصادرة الممتلكات دون صرف التعويضات المستحقة، أو ممارسة الإكراه على أساس فكري أو سياسي أو ديني.
ولم يغفل الدستور التأكيد على حقوق المرأة، حيث كفل لها حق المشاركة الكاملة في الحياة العامة دون قيود أو تضييق. بل نصت المسودة على أن يضمن قانون الانتخابات المقبل حق المرأة العراقية في أن يخصص لها 25% من المقاعد في الجمعية الوطنية. ولإحقاق مزيد من الإنصاف للمرأة العراقية نصت المسودة على تحريم "كافة أنواع العنف وسوء معاملة الأسرة"، كما نصت على نبذ "التقاليد القبلية المخالفة لحقوق الإنسان". ولعل أهم تطور جاء به الدستور العراقي في مجال الأسرة هو منح الجنسية العراقية لأبناء الأمهات العراقيات، وهو حق يعتبر ثورياً بمقاييس المنطقة. أما بالنسبة لقانون الأحوال الشخصية المثير للجدل فقد نصت المسودة على أن تتولى الجمعية الوطنية وضع قانون يمنح حرية الاختيار للعراقيين بين القانون المدني أو القانون الديني لتنظيم أحوالهم الشخصية، وهو ذات الوضع المعمول به في إسرائيل. وبخلاف ما كان يطالب به البعض من أن يكون الإسلام المصدر الرئيس للتشريع اعتمدت الصيغة المعتدلة فأصبح الإسلام مصدرا أساسيا للتشريع، لكن ليس الوحيد. وفي نفس الوقت تكفل المسودة "حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية".
وقد أولت مسودة الدستور كذلك اهتماماً خاصاً بمسألة إرساء الهياكل الضرورية للحكومة العراقية من أجل إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي. وهي الهياكل التي في حال احترامها ستسهم بشكل كبير في ردم الهوة بين مختلف مكونات الشعب العراقي وتجعل منهم شركاء في حكومة واحدة همها الوحيد تدبير أمور المواطنين والسهر على إخراج البلاد من أزمتها الأمنية والاقتصادية. فمسودة الدستور تمنح للجهاز التشريعي سلطة الرقابة على الجهاز التنفيذي، كما تنص على إقامة جهاز قضائي مستقل يمارس هو الآخر الرقابة الدستورية على الدولة. وحرصا على ضمان حقوق الأقليات نصت المسودة على ضرورة الحصول على ثلثي الأصوات لتمرير التشريعات التي تمس قضاياها. هذا وقد تم الاتفاق من خلال مسودة الدستور على ترحيل مسألة تشكيل فدراليات أخرى غير تلك الموجودة في كردستان إلى الجمعية العمومية المقبلة التي سيتاح للسنة المشاركة فيها والإدلاء برأيهم. وأشار الدستور كذلك إلى مسألة اقتسام الموارد في إطار الفدرالية، حيث نص على أن موارد النفط والغاز هي ملك للشعب. وستتولى الحكومة الفدرالية والحكومات المحلية إدارة تلك الموارد وتوزيع مداخيلها. كما ستقومان معا بتطوير استراتيجية لإدارة الموارد المكتشفة في المستقبل.
وبالنظر إلى الاختلافات العرقية والطائفية المستحكمة بين القوى العراقية، فقد شكلت مناسبة النقاش حول مسودة الدستور فرصة جديدة للتقريب بين وجهات النظر والتقليص من الاختلافات. وفي هذا الإطار قام التحالف الشيعي الكردي في الجمعية الوطنية بإجراء العديد من التعديلات على المسودة الأولى للدستور التي كان قد