الإجراءات الأخيرة التي اتخذها رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، "ديتليف ميليس"، بالقبض والتحقيق مع قادة الأجهزة الأمنية في لبنان، خطوة رائدة وشجاعة من القاضي الألماني، الذي لم يتبع أو يسمع بالطريقة العربية المعهودة والمعروفة، وهي إلقاء اللوم على إسرائيل والصهيونية والامبريالية الأميركية وأعداء العرب والمسلمين في الغرب.
القاضي الألماني لم يرفع تقريره الإجرائي قبل أيام من تقديم تقريره النهائي للأمين العام للأمم المتحدة، إلا بعد التوصل إلى أدلة وقرائن تتعلق بدور كل واحد من الذين جرى توقيفهم، أي المشتبه بعلاقتهم بالجريمة. قوة ميليس لم تأت من السلطة اللبنانية أوالسورية أو حتى القمة العربية والجامعة العربية، قوته أتت من الشرعية الدولية والقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، منها القرار 1595 الذي أقر إنشاء لجنة تحقيق دولية وأعطاها صلاحيات التحقيق ورفع تقريرها للأمين العام ومجلس الأمن الدولي. المحقق الدولي ميليس لم ينفرد بقراراته على طريقة الأنظمة العربية، بل اعتمد على مجموعة كبيرة من المحققين الدوليين يقدر عددهم بأربعين شخصاً، وقد استمعت اللجنة الدولية إلى إفادات أكثر من 250 شخصا.
من المفارقات الغريبة في التحقيقات الدولية الجارية في لبنان، أن معظم الشهود المستجوبين عبروا عن توجسهم من وضع المعلومات بتصرف السلطات الأمنية اللبنانية، وهذا يدل على انعدام الثقة في الأجهزة الأمنية والجسم القضائي.
هذا الأمر يتطلب إعادة الثقة في الأجهزة الأمنية والقضاء اللبناني، وهذا لن يتحقق إلا إذا قرر الشعب اللبناني بأن وحدتهم الوطنية أهم من المذهب والدين والطائفية وغيرها، ورفضهم التعاون مع دول الجوار على حساب بلدهم وأمنهم.
ماذا تعني التدخلات الدولية في لبنان؟ تعني بأن التدخلات الدولية، وعن طريق منظمة الأمم المتحدة، أصبحت حقيقة واقعة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتحرير الكويت وكوسوفو والبوسنة والهرسك وغيرها من المناطق المنكوبة.
اليوم بعد أحداث 11 سبتمبر أصبحت منطقتنا العربية محط أنظار العالم، بسبب العمليات الإرهابية التي انطلقت من منطقتنا. لذلك اشتدت الحملة الدولية ضد الإرهاب ما أدى إلى إسقاط النظام في أفغانستان والعراق ورفض المجتمع الدولي تدخل الدول الكبيرة في شؤون الدول الصغيرة "الحالة اللبنانية". ولولا تعاون الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي لما تم سحب القوات السورية من لبنان ولما تشكلت لجنة دولية للبحث عمّن اغتال الرئيس الحريري وغيره من اللبنانيين.
يبقى السؤال: كيف ستتعامل سوريا مع تقرير ميليس؟ سوريا أعلنت في الأسبوع الماضي أنها ترفض التعاون مع اللجنة إلا من خلال الإجراءات والقوانين السورية، لكنها عادت وغيرت وجهة نظرها وأعلنت استعدادها للتعاون تعاوناً تاماً مع لجنة التحقيق الدولية. هل ستقبل سوريا نتائج التقرير إذا استهدفت مسؤولين فيها حاليين أو سابقين، أم سترفض التقرير باعتبار أن التقرير مُسيس ويتدخل في الشؤون الداخلية السورية؟
لا نعرف ماذا سيكون موقف سوريا النهائي سلباً أم إيجاباً، لكن الأمر المؤكد هو أن سوريا لن تصمد طويلاً أمام الضغوط الدولية المتزايدة. فأمام سوريا خياران: أحدهما السيناريو الليبي الذي استجاب للمتطلبات الدولية وانخرط في عملية الإصلاح الداخلي المنسجم مع السياسة الأميركية. أو أن تكون عرضة لاستمرار الضغوط الدولية التي تدفع لسقوط النظام مثل ما حدث في العراق. ما حدث في لبنان هو خطوة رائدة في طريق تحرير وإعادة بناء دولته من جديد.. وهذا سوف يشمل العديد من الدول العربية التي ترفض التغيير والديمقراطية وإطلاق الحريات لشعوبها وتنتهك حقوق الإنسان في بلدانها.