يقولون تلك أشياء تحدث في هذا العالم. أجل، لكن عندما يجتمع العجز وانعدام الكفاءة في حكومة معينة فإن ما يعتبر من طبائع الأمور قد يتحول إلى كارثة حقيقية. فها هي أميركا تغرق مرة أخرى في حفرة سحيقة من الفوضى والموت والنهب والاغتصاب والجريمة، ومعاناة الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة وسط بنية تحتية مدمرة وقوات شرطة عاجزة، وأعداد غير كافية من الجنود، وإهمال حكومي مشين. غير أن هذه المرة يحدث كل ذلك في أميركا نفسها وليس في أي مكان آخر.
فماذا فعل بوش؟ لقد خفض ما كان مفترضاً أن يخصص من أموال لبناء سدود على نهر المسيسبي تحول دون تدفق مياه الفيضانات على مدينة نيوأورليانز. ولأن النهر كان مترعاً بالمياه فقد تجشأ قليلا ليقول وداعا لحياة الآلاف من الأميركيين. أما بوش فاكتفى في تصريح له بالقول "لا أعتقد أن أحداً كان بمقدوره التنبؤ بأن مستوى المياه سيتجاوز السدود وستحصل الفيضانات". وعندما قرر بوش أخيرا أن يشمر عن ساعديه وينزل إلى الجحيم في مدينة نيوأورليانز تذكر مع نفسه أيام المجون، وهو يسرح بذكرياته إلى فترة إدمانه الخمر في تلك "المدينة العظيمة". لذا فقد كان التأثر باديا على وجهه وارتسم الأسى على محياه وهو يقول أمام الكاميرات من مطار مدينة نيوأورليانز "سأرحل بعد دقيقة، لكني أريدكم أن تتأكدوا بأني لن أنسى أبدا ما رأيت". لكن ما لم تظهره الكاميرات وما أشاح بوش بوجهه عنه هو ذلك الموكب الذي يضم آلاف المرضى والمحتضرين ارتموا فوق الأرض، أو فوق الأمتعة التي تحولت إلى أسرة داخل قاعة المطار نفسه الذي أدلى منه بوش بتصريحه ذاك.
لكن لماذا يلجأ دائما هذا الرئيس صاحب مقولة "نستطيع أن نقوم بذلك" إلى الاختباء خلف بعض الحجج والذرائع الواهية من قبيل "من كان يمكنه أن يتنبأ بتلك الأشياء"؟ فحسب بوش من كان يعرف أن أسامة بن لادن سوف يهاجم الولايات المتحدة باستخدام الطائرات؟ لكنه ينسى أن أي مسؤول يقرأ تقارير الاستخبارات قبل أحداث 11 سبتمبر كان سيعرف ذلك. ومن كان يعرف أن الغزو الأميركي للعراق سوف يفضي إلى ظهور حركة تمرد عنيفة، وازدهار عملية تجنيد الإرهابيين، فضلا عن احتمال اندلاع حرب أهلية في العراق؟ لكن بوش ينسى أيضا أن التنبؤ بذلك كان ممكنا لو اهتم المسؤولون قليلا بقراءة تقارير الوكالة المركزية للاستخبارات الأميركية قبل اتخاذ قرار الحرب. وبالمنطق نفسه يتابع بوش حججه متسائلاً من كان يعرف أن السدود الصغيرة المبنية على ضفاف نهر المسيسبي ستعرض سكان مدينة نيوأورليانز للخطر في ظل إعصار بهذه القسوة؟ وينسى بوش مرة أخرى أن أي مسؤول قرأ التقارير المحذرة خلال السنوات الماضية كان سيعرف ذلك بالتأكيد.
وفي يونيو 2004 أعرب السيد والتر مايستري مدير قسم إدارة الطوارئ في مقاطعة جيفرسون عن قلقه حيال خفض الموازنة المخصصة لإدارته حيث قال "يبدو أن الأموال المخصصة لنا تم نقلها إلى وزارة الأمن الداخلي والحرب في العراق. وأعتقد أن الثمن هو تعثر بعض المشاريع المهمة بما فيها عدم إنهاء بناء السدود على ضفتي المسيسبي. لكننا سنقوم بكل ما يلزم لإقناع الحكومة الفيدرالية بأن مسألة بناء تلك السدود هي من صميم أمننا القومي". وليت الأمر اقتصر على الموارد التي استنفدت بالكامل بعدما خصصت لحماقة بوش في العراق، بل امتد العجز أيضا إلى الحرس الوطني حيث يوجد 30% منهم خارج الوطن. وفي نفس السياق ذكر رون فورنيي من وكالة الأنباء "أسوشيتد بريس" أن فرقة المهندسين في الجيش الأميركي كانت قد طلبت السنة الماضية من إدارة بوش رصد مبلغ 105 ملايين دولار لدراسة الأعاصير والفيضانات في مدينة نيوأروليانز، لكن البيت الأبيض فضل لأسبابه الخاصة تخصيص مبلغ هزيل لا يتجاوز 40 مليون دولار.
لكن الغريب فعلا ما صرح به ذلك الأحمق "مايكل براون" المسؤول الأول عن الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، والذي بدلا من أن يركز في عمله قام بإنشاء جمعية عالمية للخيول العربية الأصيلة، حيث قال إنه لم يدرِ حتى الخميس الماضي بوجود أكثر من 15 ألف مواطن يعانون من الجوع والغضب محشورين في مركز المؤتمرات في نيوأورليانز. فماذا كانت ردة الفعل، هل تمت إقالته فورا؟ كلا، لقد اتصل به الرئيس بوش على هاتفه المحمول مهنئاً إياه على العمل العظيم الذي يقوم به. وقد كان من الممكن الغفران للرئيس بوش ودائرته الخاصة، مثل ديك تشيني الذي كان حينها مستمتعا بإجازته في وايومينج، وكوندليزا رايس التي كانت هي الأخرى منهمكة في شراء زوج من الأحذية من أحد المحلات المشهورة في نيويورك، لو كان خطؤهم الوحيد هو عدم إحساسهم بما جرى. لكن مشكلتهم مركبة فلا هم أبدوا تعاطفهم مع هذا المصاب الجلل الذي ألم بأميركا، ولا هم أبدوا كفاءة في إدارة الأزمة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأعتقد أن هذا التخبط وعدم الفاعلية هما ما يهدد بانفراط عقد هذه الإدارة.
لقد تسبب الرئيس ونائبه بزعزعة ثقة العالم في المبادئ والمثل الأميركية عندما استعجلا تشتيت حلفائنا وانتهاك حرمة القانون الدولي في حربه على ا