كثيرة هي الكتابة والحديث عن مسودة الدستور العراقي التي من المتوقع أن يتم الاستفتاء الشعبي عليها منتصف شهر أكتوبر المقبل، فلا تكاد تفتح جريدة أو مجلة، عربية كانت أم غير عربية، ولا تدير التلفزيون على أي من الفضائيات، إلا وتجد مقالة ونقاشاً حول مسودة الدستور العراقي. الكل له رأي في الدستور العراقي - بمن في ذلك الجامعة العربية العتيدة- التي استفاقت بعد سبات على أحد البنود المقترحة حول عروبة العراق.
ما أغفله الكثير من المراقبين هو ما وراء الدستور ومسودته، وهو أن كتابة الدستور يصحبها نقاش فريد ولأول مرة لشعب عربي حول تحديد صياغة القانون الذي يجب أن يحتكم إليه، كل شيء قابل للنقاش، الدين وعلاقته بالدولة، والعروبة والنفط وتوزيع الثروات وحقوق الأقليات وممارسة الأديان، ومستقبل علاقة العراق بمحيطه والعالم، وكلها مسائل يُعد تناولها من المحرمات في عالم العروبة والإسلام بشكل عام.
لأول مرة في التاريخ، يناقش شعب عربي بكل حرية وشفافية علاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقات المجموعات العرقية والدينية والطائفية ببعضها بعضاً وعلاقتها بمرجعية دستورية موحدة يتساوى أمامها الجميع، كما طالت النقاشات مسألة المرأة ودورها في المجتمع، والنظرة المستقبلية لحمايتها في ظل دولة الدستور والقانون.
وبغض النظر عن فحوى تلك الحوارات، وموقف كل جماعة منها، فإنها تتم بشكل غير مسبوق من الحرية والقدرة على التعبير دون خوف أو تحسب لمخابرات، أو أجهزة أمنية توجه هذا الرأي وتفرضه، وتمنع ذاك القول وتحجبه.
ومن الأشياء التي فاتت الكثير من المراقبين، أن بعضهم يحذر من حرب أهلية قد تجري في العراق إذا ما فشلت جهود التوافق على الدستور، وما غاب عن ذهن هؤلاء هو أن الحرب الأهلية واقعة بالفعل في بعض المناطق، وهي بالدرجة الأولى سنية- شيعية؛ ففي بعض المناطق تجري تصفيات علنية للشيعة بحجة ولائهم لإيران، وفي مناطق أخرى يجري "طم" (أي دفن باللهجة العراقية) سُنة كثر بحجة انتمائهم لـ"البعث"، وهي الحجة الجاهزة لتبرير القتل الطائفي، والمشكلة أن ضمان وقف هذا الاقتتال الطائفي هو الدستور نفسه الذي يعتبر الجدل حول مواده مبرراً للقتل، فما بالك لو لم يقر الدستور ولم يتم التوافق عليه؟
يتشكل حول مستقبل العراق فريقان من المراقبين متضادا النظرة؛ فمن فريق متشائم يرى كل مبررات التشاؤم تجري في الساحة العراقية، ويرى أن الجدل والتحفظ والمقاطعة "السُنية" لمسودة الدستور، ستعني نهاية الحلم وإعلان الحرب الأهلية والتقسيم، ودخول العراق في فوضى لا يعلم إلا الله وحده نتائجها الوخيمة، إلى فريق يقدم قائمة وردية لأسباب التفاؤل والتبشير بمستقبل واعد، ويرى في التحفظ السني ظاهرة ديمقراطية، ويعتبر الفوضى الأمنية مسألة مؤقتة سرعان ما تبدأ بالتلاشي حال الاستفتاء على الدستور.
ترقب الدستور العراقي يحبس أنفاس العراقيين، فكثير منهم يرى في إقراره نور النفق المظلم الذي يعبث بالأمن، ويطحن الأبرياء في دوامة من العنف الدامي، وبعضهم لا يرى أملاً في استقرار قريب للعراق - سواء أقر الدستور أم لم يتم التوافق عليه- ولكن الكل مجمع على أن سقوط الدستور في الاستفتاء يعني بداية النهاية لحلم العراق الجميل.
بعض من يرفض المسودة الحالية للدستور، لديه تحفظات مشروعة، وبعض من يقبل بها يعتبرها قارب النجاة الوحيد المتبقي قبل الدخول في الفوضى والدمار.
وبعض من يتحمس لمسودة الدستور العراقي هذه الأيام، يرى فيها تقنيناً "ديمقراطيا" لطموحاته الطائفية والعرقية، وبعض من يرفض المسودة يرى في التصويت على رفضها فرصته الأخيرة في قلب الطاولة "عليَّ وعلى أعدائي".
العراقيون على مفترق طرق؛ فإما أن تكون مسودة الدستور بداية لمرحلة سوداء، أو بداية لنور عراقي قادم!.