بعد مفاوضات استمرت شهراً كاملاً لم يُوفق الطرفان: الجانب الحكومي ومندوبو "التجمع الوطني الديمقراطي"، في الوصول إلى اتفاق كامل يُلزم التجمع المعارض بالاشتراك في أجهزة الحكم للفترة الانتقالية ومدتها ست سنوات. لقد رفض المعارضون العرض المقدم من الحكومة وهو نسبة 14% من المقاعد في الهيئة التشريعية (البرلمان) والهيئة التنفيذية (مجلس الوزراء). وعلى الرغم من أن هذه النسب هي ما نصت عليه اتفاقية "نيفاشا" المرجعية، فإن ممثلي "التجمع" يرون أنها نسبة مجحفة ولا تتناسب مع الثقل الجماهيري الذي تمثله الأحزاب والهيئات التي يضمها تنظيمهم ولهذا كان الرفض، على أن يُعرض الأمر على الهيئة القيادية للتجمع التي ستلتقي قريباً في العاصمة الإريترية.
ورغم هذا الخلاف فإن وفد "التجمع"، استطاع أن يصل إلى اتفاق مهم مع الحكومة يغطي جوانب ذات أثر في عمليات التحول نحو الديمقراطية وتعزيز الحريات ورد المظالم.
إن ما تم الاتفاق عليه يغطي مساحات واسعة من القضايا الملحة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أولا: النظر الجاد في مقترحات المعارضة لإصلاح الوضع الاقتصادي. ثانياً: إعادة تقييم الحكم اللامركزي والفيدرالي... إلخ. ثالثاً: مراجعة قوانين الخدمة المدنية وهياكلها بغرض تطويرها وتفعيلها بما يضمن قوميتها. رابعاً: ترتيب أوضاع الهيئة القضائية بما يؤكد استغلالها وحيدتها. خامساً: ترتيب أوضاع القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى وجهاز الأمن لتأكيد قوميتها. سادساً: النظر في قضايا كل من أبعدوا من العمل بدعوى الصالح العام لرد مظالمهم وإعادة من مازال صالحاً للعمل إلى عمله أو تعويضه عما لحق به من أضرار.
ولضمان تنفيذ ما اتفق عليه، فقد صدر بيان مشترك، بين الحكومة والتجمع يوضح بصورة مفصلة بنود الاتفاق وآليات التنفيذ التي تقع على كاهل الحكومة برقابة من "التجمع"، إذ أن لكل بند من بنود الاتفاق لجنة مشتركة يتساوى فيها عدد ممثلي الحكومة والتجمع. يبقى أن تقر قيادة "التجمع" موقف وفدها الذي مكث في الخرطوم شهرا كاملا والذي يرفض المشاركة في الحكم والاكتفاء بالمشاركة في تحقيق الأهداف التي تضمنها الاتفاق المشار إليه أعلاه، ويغلب الاعتقاد بأن الهيئة القائدة ستفعل ذلك.
إن ملخص هذا الذي تم سيعني أولا أن الحكومة الجديدة التي سيُعلن عنها في الأيام القليلة القادمة لن تكون قومية ولن تشارك فيها قوى سياسية ذات وزن، وثانياً سيعني كذلك أن القوى المعارضة لتلك الحكومة ستكون واسعة تشمل كل أشكال الطيف السياسي في السودان الشمالي، إنها ستضم فصائل "التجمع الوطني الديمقراطي" بالإضافة إلى حزب "الأمة" الذي يقوده الإمام الصادق المهدي وحزب "المؤتمر الشعبي" بقيادة الدكتور حسن عبدالله الترابي.
وإذا التزم الطرفان الأساسيان المُشكلان للحكومة وهما حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم والحركة الشعبية (الجنوبية) بما نصت عليه الاتفاقية الأم بشأن الحريات العامة وما إليها، وإذا التزما كذلك بتنفيذ كل بنود الاتفاق المشار إليه مع التجمع الوطني الديمقراطي، فإن ذلك سيوفر للمعارضين مساحة واسعة للعمل الجماهيري السلمي، مما يعني أننا مقبلون على مرحلة تتميز بحراك ديمقراطي واسع النطاق ستكون له آثاره وبصماته على الانتقال إلى الحكم الديمقراطي المعافى والقادر على الاستمرار.