بعد سنتين من صدور كتابه المثير للجدل:"علم الزنوجة: لماذا أفريقيا في طريقها إلى الموت"، ها هو الكاتب الفرنسي ستيفن سميث الذي عمل طويلاً صحفياً بجريدة لوموند، وانتقل منها إلى صحيفة ليبراسيون، يعاوده الحنين إلى موضوع أثير إلى نفسه هو القارة السمراء وهمومها، ومشاكلها، وموقع ومسؤولية فرنسا في ذلك، وقد رافقه في هذه العودة الكاتب الصحفي أنطوان غلازر، إذ نشرا مؤخراً كتاباً نعرض قراءة موجزة لفكرته الأساسية في هذه المساحة، وعنوانه:"كيف فقدت فرنسا القارة الأفريقية"، وفيه يركز الكاتبان على تحولات العلاقة بين باريس ومستعمراتها السابقة في أفريقيا مركزين على أمثولتين، أو بكلمة أدق فشلين ذريعين ما زالا يؤرقان صانع القرار الفرنسي، وهما حالتا، الإبادة الجماعية في رواندا التسعينيات، والحرب الأهلية في ساحل العاج الآن. والمثير في هذا الكتاب هو أنه يكتنز بالكثير من التفاصيل التاريخية التي تشكل حقلاً دلالياً لابد من الاطلاع عليه مسبقاً لوضع الكثير من المواقف والتوازنات السياسية والتبدلات في التحالفات في سياق يسمح بتفسيرها بشكل منطقي، وإن لم تكن المنطقية في حد ذاتها أمراً مضموناً عند الحديث عن الشأن الأفريقي بصفة عامة. واستدعاء التاريخ هذا واستنطاق إحالاته وإسقاطاته على الحاضر هما الملفت فعلاً في القسم الأول، وربما الأهم، من الكتاب، من منطلق الأهمية الكبيرة التي ظل كلا طرفي العلاقة يعلقانها على "المهمة التحضيرية" التي يتعين على فرنسا والغرب بصفة عامة، لعبها تجاه الأفارقة "المتخلفين" فيما عرف في عهد الاستعمار الذهبي بـ"مهمة الرجل الأبيض".
وفرضية العمل التي يكشف الكاتبان من البداية أنهما يسعيان لإثباتها هي أن علاقات باريس كمتروبول استعماري سابق مع مستعمراتها الأفريقية دخلت الآن مرحلة أفول حقيقي، يترجمها الطلاق البائن بين الطرفين الذي شكلت مطاردة الفرنسيين في شوارع أبيدجان عاصمة ساحل العاج أبلغ تعبير عنه في نوفمبر سنة 2002، مع ما تلا ذلك من مواجهات. ويرى الكاتبان أن تلك الأحداث (والأزمة العاجية بصفة عامة)، كانت من وجهة نظر السواد الأعظم من المراقبين بمثابة دق لجرس نهاية اللعبة الفرنسية في القارة السمراء، وهي لعبة مريرة انحسر زخمها أصلاً بعدما فقدت الكثير من حميميتها وأسباب وجودها بنهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين أواخر الثمانينيات.
ويرى سميث وغلازر أن بداية النهاية لأحلام فرنسا الإمبراطورية في أفريقيا لم تأتِ بفعل النفوذ الأميركي الطاغي الآن، وإنما ترجع جذور تلك النهاية مع الزمن إلى الوراء إلى عدة عقود حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتمكن القوى الديمقراطية من دحر الفاشية والنازية، وبعد ذلك بات واضحاً أن ثالثهما، وهو الاستعمار، سيلحق بهما، دون تأخير، وهذا ما حصل بالفعل مع نهاية الخمسينيات. ولئن كان من عادة الفرنسيين التبجح بأنهم أخرجوا أفريقيا من ظلمات الغابة إلى "شموس الاستقلالات"، إن كان لنا أن نستعير عنوان رواية الأديب العاجي أحمدو كوروما، فإن مؤلفي الكتاب في المقابل يذكران الفرنسيين بالدور الكبير والتضحيات الجسام التي قدمها الأفارقة لفرنسا في الحربين العالميتين، ويستدعيان شهادات ذات دلالة منها ذلك الوصف المؤثر في أحد أعمال الكاتب المالي باكاري كاميان، لمأساة مجندين مظليين أفارقة القي بهم، باسم فرنسا، وهم الأميون بنسبة 98% في مواجهة جيش ألماني ينتمي إلى أكثر الشعوب طليعية وتقدماً في الغرب المعاصر.
ويحتشد الكتاب بعد ذلك بأسماء وأحداث وأمكنة تؤرخ كلها لإخفاقات السياسة الفرنسية وسوء تصرفها وتدخلاتها الفاشلة في أفريقيا، ويسجل أيضاً أوجهاً من التجاذبات الدولية بين القوى العظمى على نيل موطئ قدم في أفريقيا يوم كانت القارة رأس حربة في سلسلة حروب عبثية بالوكالة بين الشرق والغرب، وهنا ترد أسماء كثيرة من القادة الأفارقة الذين جسدوا رهان سياسة الارتباط بفرنسا، والمراهنة على مظلة حمايتها، والارتماء في أحضان تحقيق "مصالحها". وعلى الجانب الفرنسي أيضاً ينشر المؤلفان غسيل بعض وكلاء السياسة الفرنسية في القارة السمراء. وفي مقدمتهم كما يمكن أن نتوقع أسماء مثيرة للجدل، من قبيل، المرتزق بوب دينار، والوزير السابق شارل باسكوا، ونجل الرئيس جان كريستوف ميتران، وآخرين ترد أسماؤهم بانتظام في صفقات الفساد وتهريب السلاح وتدبير الانقلابات هنا أو هناك في القارة.
ولئن كان ما تلوثت به سمعة بعض هؤلاء "الوكلاء" من فضائح فساد واتجار غير مشروع في السلاح، وصفقات مالية تحت الطاولة، كل ذلك يقدم على أنه تعبير عن انحرافات فردية، وليس تجسيداً لسياسة رسمية تتبعها باريس، فإن ما ينسف هذا الزعم، هو كون هؤلاء الوكلاء الأفراد هم من يظهر في الصورة على الأقل، اعترفت باريس بذلك أم لم تعترف. ولا يتأخر الكاتبان أيضاً، عند تحديد المسؤوليات عن بعض مظاهر إخفاق السياسة الفرنسية، في مساءلة المزاعم الرسمية، متخذين جرائم الإبادة الجماعية التي حصلت في رواندا سنة 1994 مثالاً، حيث ا