بات الوصول إلى الحقيقة أمراً صعباً في عالم يضج بالأكاذيب التي وجدت منابر ضخمة لها عبر ما وفرته ثورة التقنية والاتصالات من فضائيات وصحف ومواقع أنترنت تملأ أرجاء الدنيا بالأنباء والأشرطة والصور، وتديرها عقول ماهرة متخصصة في فن الإقناع والترويج الذي هو علم كذلك يستفيد من شكلانية الحقيقة دون مضامينها، ويقوم بصناعة تجميلية وتقنية للشبهات حتى تصير بديلاً عن الحقائق وسرعان ما تتلقفها أذرع الأخطبوط الإعلامي لتنشرها في العالم كله، واحذر إن كنت ممن يحرصون على التدقيق والتحقق من أن تشك بمصداقية الأكذوبة، فقد تواجهك تهمة جاهزة هي أنك من فريق عقلية المؤامرة المتخلف والعاجز عن قراءة العصر واكتشاف حقائقه.
وصناعة الأكاذيب عريقة جداً في الإعلام الغربي والصهيوني، وقد سمى "جور فيدال" عصر الأكاذيب (العصر الذهبي) وهو عنوان كتابه الذي يفضح فيه ثلاث أكاذيب كبرى غيرت مجرى التاريخ في منتصف القرن العشرين، وهي أكذوبة بيرل هاربر، وأكذوبة هيروشيما، ثم أكذوبة الحرب الباردة. وفيض الأكاذيب يتدفق اليوم، ونحن ندرك مع "كيفين فيليب" صاحب كتاب (سلالة أميركية) أن التداخل بين السياسة العامة والمصالح الشخصية بات عملاً إجرائياً ومعيارياً في الإدارة الأميركية، ولسنا نشكو من خطر ذلك بأكثر مما يشكو الأميركان أنفسهم. وحسب القارئ أن يتأمل عناوين بعض الكتب التي اشتهرت في الولايات المتحدة وهي تحاول مناهضة الأكاذيب، ومنها كتاب (ثمن الولاء) لـ"رونسا سكيند"، وكتاب (بوش المهزوز) لـ"مولي إيفنز"، وكتاب (أكاذيب كبيرة) لـ"جوكوناسون"، وكتاب (أكاذيب بوش) لـ"ديفيد كورن"، وغيرها كثير مما حفلت به المكتبات عدا ما ظهر في أوروبا وفي بريطانيا. فقد طفح كيل الأكاذيب ولم يعد الكتاب والصحفيون الغربيون الشرفاء يستطيعون هضم وجبات الإعلام المسمومة، بل إن كثيرين أصيبوا بالتسمم وبعضهم قتل نفسه كما فعل (ديفيد كيلي) خبير الأسلحة البريطاني الحكومي لأنه كان مصدر المعلومات التي اعتمد عليها فيلم (البي بي سي) الشهير عن التقارير الأمنية الملفقة. وبعض من تورط وقال الحقيقة واجه السجن كما حدث لـ"كاترين جن" التي كشفت تجسساً على الدبلوماسيين في الأمم المتحدة. أما "جوزيف ويلسون"، فقد دفعت زوجته "فاليري بلام" ثمن كشفه زيف الادعاء بأن صدام حصل على يورانيوم من النيجر. ولعل من الطرائف أن يكشف الإعلام ذاته أكاذيبه، فقد اعترف إعلاميون أميركان بأن فيلم العثور على صدام في حفرة تم تصويره لاحقاً وقد لعب صدام دور الأسير، وأطرف من ذلك قول ساجدة الذي ردده الإعلام الكاذب ذاته (إن الذي وراء القضبان ليس زوجي). وفي مقالة طريفة لـ"نعومي كلاين" إشارة فاضحة إلى أن ثمانين في المئة من متابعي قنوات إمبراطورية "ميردوخ" كانوا يعتقدون أن لدى صدام أسلحة دمار قبل أن يسمعوا اعترافات "باول" على القنوات الفضائية الأميركية وهو يبدي أسفه أمام الشعب الأميركي لنقله أكاذيب لمجلس الأمن لفقتها المخابرات الأميركية.
ويبدو أن تقديم الاعتذار هو الحقيقة الوحيدة التي يقدمها الإعلام الصهيوني بعد انتهاء فاعلية الأكذوبة، وهذا لا يعني أن كل الصحافيين الأميركان متورطون بالكذب، فكثير منهم يصرخ، وقليل منهم من تجد صرخاته صدى، فإن وجد فسينال الاحترام الذي ناله "سيمون هيرش" الذي فجر حقيقة "أبو غريب"، وسيسخر من رجال فقدوا هيبتهم بافتضاح أكاذيبهم، كما سخر "روبرت فيسك" من المحقق الدولي اللواء كينيث ديل الذي هلل لاكتشافه وثائق تقود إلى سر أسلحة صدام، وسرعان ما افتضح كون الوثائق المزعومة ترجمة لرواية تايلور (الكفاح من أجل الإتقان ) مما دعا "فيسك" إلى أن يقول بأسى (كم من السخافات يراد لنا نحن الجمهور أن نبتلع؟).
لقد أصبح الكذب السياسي والإعلامي جرثومة أخطر من جرثومة أكذوبة الجمرة الخبيثة، وأكاذيب الإعلام تنتقل اليوم بسرعة وتقنية عالية نحو سوريا التي حان دورها، وكانت جريمة اغتيال الشهيد الحريري الحدث التراجيدي الأخطر الذي يبدأ معه التصعيد، ومع بالغ احترامي للمحقق "ميليس" وفريقه الدولي، ولا سيما حين أصر على أن التفجير لم يحدث تحت الأرض كما رغب الباحثون عن اتهام سوريا وليس عن الحقيقة (وقد فضحهم الوزير سليمان فرنجية وأيده تقرير ميليس) إلا أنني أستغرب أن يفتعل المحقق اتهاماً لسوريا بعدم التعاون والكتب بين يديه تؤكد حرص سوريا على نجاح مهمته وعلى وصوله إلى الحقيقة، وأستغرب (من موقف شخصي) أن يوجه اتهام لنائب لبناني عروبي أصيل بأنه مشتبه به لمجرد أنه صديق لسوريا ومدافع عن عروبة لبنان. وأما حكاية أنه بعث كتاباً لسوريا يحرضها على التخلص من الحريري فهي فبركة مضحكة، وأحسب أن الأمر لا يعدو كونه تصفية حسابات مع رجل أصر على أن تستمر علاقة لبنان بسوريا طيبة ومتينة، وقد أحزنني أن يتهم الرجل بحبه لسوريا وكأنه وحده في لبنان من يحب سوريا، فإن كان حب سوريا تهمة فالمتهمون إذن هم الغالبية العظمى من شعب لبنان ممن خرجوا في مسيرة الوفاء. وأما وصفه بأنه كان وديعة سوريا عند الحريري فهذ