حياة الشعوب وحياتنا الشخصية، ما هي في الأساس إلا سلسلة من الأحداث... فمن منّا لا يتذكر اليوم الأول الذي ذهب فيه إلى المدرسة أو تخرج من الجامعة أو سافر في بعثة خارجية للدراسة، وكذلك في حياة الشعوب هناك تواريخ أساسية: يوم الاستقلال الوطني، أو يوم النصر أو الهزيمة في الحرب أو في الألعاب الأوليمبية. مثل هذه الأحداث الكبيرة من السهل تتبعها لأنها تعتبر نقطة فارقة في تاريخ الأفراد كما هي في تاريخ الشعوب، وهذه الأحداث الكبيرة نتعرف عليها بسهولة لأنها تفصل "قبل" عن "بعد"، فنقول مثلاً "قبل" تخرجي من الجامعة أو "بعد" مولد ابنتي الأولى.
ولكن ماذا عن الأحداث الأخرى؟ فحياتنا الشخصية وحياة الشعوب لا تتكون من أحداث كبيرة فقط، فكيف نتعرف على هذه الأحداث الأخرى؟ نتعرف على هذه الأحداث عن طريق مغزاها، فقد تكون أحداثاً صغيرة نسبياً، ولكن مغزاها أكبر من حجمها بكثير. ولتوضيح مفهوم الحدث الصغير ذي المغزى الكبير، أسوق مثالاً من كندا، هذا البلد الصغير نسبياً (سكانه أكثر من 30 مليوناً بقليل)، الذي يحاول بكل جهده أن يتميز عن جارته الجنوبية، الولايات المتحدة، ولكن في حدود بالطبع، ولكن هذا التميز يكون أكثر ما يكون في السياسة الداخلية. فقد لا يعرف الكثيرون أن كندا ليست جمهورية، وهي ملكية بمعنى خاص جداً، على أساس أنها من الناحية النظرية البحتة تتبع ملكة إنجلترا التي يمثلها في أوتاوا -العاصمة الكندية- حاكم عام. وهذا المنصب شرفي بحت للقيام بالطقوس البروتوكولية، بل إن من يختار الحاكم العام هو رئيس الوزراء الكندي الذي ينتخبه الشعب أولاً لعضوية البرلمان ثم لرئاسة الوزارة، أي أن أساس سلطته هو الاختيار الشعبي، الذي يختلف عن الحاكم العام الذي يأتي إلى السلطة عن طريق التعيين، ولكن من الناحية البروتوكولية، فطالما أن هذا الحاكم هو ممثل الملكة، فهو يأتي على قمة السلطة، وله قصره المهيب وحراسه وجميع الامتيازات التي يتمتع بها رئيس الدولة.
هذه المقدمة عن النظام الدستوري الكندي لها أهميتها لفهم مغزى ما حدث هذا الصيف، ألا وهو اختيار الحاكم العام الكندي الجديد. فقد اقترح رئيس الوزراء الكندي تعيين السيدة ميخائيلا جان لهذا المنصب. وبالنسبة للقارئ العربي فإن هذا الخبر في صورته الحالية لا يعني شيئاً، وحتى قد لا يلاحظه أو يتذكره بالمرة. ولكن هذا الخبر يصبح حدثاً ذا مغزى عندما نعرف أولاً، أن هذه السيدة ذات الثمانية والأربعين عاماً هي سيدة سوداء البشرة في بلد غالبية سكانه من البيض، وأنها ثانياً لم تولد في كندا بل هاجرت إليها مع أسرتها وهي طفلة، ويبدو أن هذه الأسرة كانت مضطرة للهروب من هاييتي- مسقط رأس السيدة جان- للنجاة من النظام الديكتاتوري لهذا البلد، واستقر خالها في باريس ليصبح كاتباً ذائع الصيت. أما هي فقد استقرت في مونتريال لتصبح مذيعة تليفزيونية، وهي في الواقع من ألمع الصحفيات، كما لمست ذلك شخصياً في حوار معها قبل أن تصبح مرشحة لمنصب الحاكم العام.
هذا التاريخ البسيط عن السيدة جان يُبين عاملين آخرين: أنها تأتي من القسم الفرنسي في كندا وخاصة مقاطعة كيبيك التي لا يتجاوز سكانها خُمس سكان كندا، أي أنها تأتي من الأقلية. والعامل الثاني، أن هذه السيدة - الحاكم العام- لم تصل إلى هذا المنصب عن طريق الوراثة، بل عن طريق "عرق جبينها" وإنجازها الحقيقي، أي أنها ليست فقط سيدة عصامية بل مكافحة أيضاً، بدأت الطريق من أوله لتثبيت مؤهلاتها وإمكانياتها، بحيث إن برامجها الوثائقية عن السياسة الدولية حازت على إعجاب جمهور كبير من المشاهدين، وحتى أنه كان يتم تسجيلها لمشاهدتها في قاعات الجامعة.
في النهاية إذن- وهذا مربط الفرس- لم يرتبط اختيار هذا الحاكم بالحسب والنسب، ففي الواقع أن زوجها أجنبي مثلها - جاء من فرنسا إلى كندا منذ حوالى ثلاثين عاماً- ولم ترتبط بموالاتها للحزب الحاكم، فهي لم تكن من حزب "الأحرار" الذي يسيطر على الحكومة حالياً، بل هناك لغط كبير حول اتهامها هي وزوجها الفرنسي الأصل بمحاباة بعض الانفصاليين الكنديين. إلى هذا الحد يتم احترام حقوق المواطنة وتكافؤ الفرص حتى في اختيار الحاكم، وقد يكون احترام هذه المبادئ من أهم أسس تقدم الشعوب، فبالرغم من أن هذا الاختيار يعتبر -دولياً- حدثاً صغيراً إلا أنه ذو مغزىً كبير.