قليل جداً من الطيارين اليابانيين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، ما زالوا على قيد الحياة، وأقل منهم أولئك الذين تم إعدادهم لتنفيذ هجمات انتحارية أنقذتهم منها نهاية تلك الحرب واستسلام اليابان بعد قصفها بقنابل ذرية أميركية.
وربما لم يتوقع أي من هؤلاء أن يعود العالم للاهتمام بهم مع إحياء الذكرى الستين لاستخدام القنبلة النووية ضد اليابان، وتأبين ضحاياها في الشهر الماضي. ولكن هذه الذكرى جاءت وسط انشغال العالم بالإرهاب الذي ضرب في أوروبا مجدداً، بينما يزداد تهديده على امتداد العالم من آسيا إلى أميركا.
ولذلك أثار تزامن الذكرى مع الانشغال بالإرهاب، سؤالاً عن أوجه الشبه بين الإرهابيين الأصوليين الآن والطيارين الانتحاريين اليابانيين "الكاميكاز"، الذين سبقوا إلى ابتكار فكرة القنبلة البشرية فأسقطوا طائرات قادوها بأنفسهم فوق مواقع معادية كان معظمها سفناً وبوارج تابعة للأسطول الأميركي الذي ألحقوا به الكثير من الخسائر.
الطيارون الأحياء احتجوا بشدة على تشبيههم بالانتحاريين الأصوليين حتى على سبيل التساؤل، ورأى أحدهم في ذلك مؤامرة تهدف إلى تحويل أنظار العالم عن مأساة هيروشيما وناجازاكي. وبعيداً عن هذا التفسير التآمري، هم على حق في اعتراضهم لأن هناك فرقاً جوهرياً بين ما فعلوه والإرهاب الراهن.
لقد قام "الكاميكاز" بأعمال انتحارية ضد مواقع عسكرية خلال حرب معلنة، فلم يهاجموا أي موقع مدني، ولا فجروا أنفسهم في مدرسة أو مقهى أو مطعم أو "باص". لم يذهب مدنيون ضحايا أعمالهم الانتحارية، ولم يفعلوا أكثر مما يفعله أي طيار عسكري في أي حرب، إلا تفجير طائراتهم فوق المواقع المستهدفة بدلاً من قصفها من أعلى. وهم فعلوا ذلك بطائراتهم العسكرية وليس بطائرات مدنية مخطوفة على كل منها عشرات المسافرين.
فالفرق، إذن، واضح بين "الكاميكاز" الذين استهدفوا عدواً عسكرياً معلوماً محدداً، والإرهابيين الأصوليين الذين يقتلون في كل عملية من عملياتهم أبرياء لا يعرفونهم، وضعهم حظهم السيئ في الموقع الذي تحدث فيه عملية الإرهاب الانتحارية.
ولكن الأهم بكثير من هذا الفرق، الآن، هو ذلك الفرق بين رد فعل اليابانيين على جريمة هيروشيما وناجازاكي التي لا مثيل لها على سبيل الحصر، ورد فعل بعض العرب والمسلمين على سياسة أميركية منحازة لإسرائيل ولا مبالية بحقوقهم ومصالحهم. لقد فعلت الولايات المتحدة في اليابان وشعبها ما لم يحدث لأي بلد أو شعب آخر، وشتان بين جريمتها ضد اليابان وأخطائها أو حتى جرائمها ضد العالم العربي والإسلامي. فلماذا، إذن، لم يعرف اليابانيون مثل الحالات الإرهابية الانتحارية المعروفة لدينا، أو بالأحرى أكثر وأعنف منها، ما دامت هناك قاعدة علمية تقول إن لكل فعل رد فعل مساوياً له في القوة ومضاداً له في الاتجاه؟
والسؤال نفسه يثار بالنسبة إلى سلوك شعوب أخرى ارتكب الأميركيون في حقها جرائم لا يمكن أن تقارن بما فعلوه في العرب والمسلمين. فإذا كان في السياسة الأميركية ما يسبب لنا شعوراً بالإهانة في بعض الأحيان، فما أشد الإذلال الذي عانى منه الصينيون عندما نشرت بريطانيا إدمان الأفيون في أوساطهم في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ما أدى إلى حرب بين الدولتين منيت فيها الصين بهزيمة أقل ما توصف به هو أنها كانت مذلة أخضعتها إلى هيمنة غربية قل مثيلها في التاريخ الحديث، فضلاً عن اقتطاع أجزاء منها.
ومع ذلك لم يعرف الصينيون مثل هذا الإرهاب الذي نعرفه الآن، وقل مثل ذلك أيضاً عن فيتنام التي ارتكبت الولايات المتحدة في الحرب عليها وفي مجرى السعي لإخضاعها، جرائم يبدو بجوارها كل ما حدث في الحرب على العراق كما لو أنه تدريب عسكري بسيط. ومع ذلك لم يفقد بعض الفيتناميين عقولهم ولم يمارسوا مثل هذا الإرهاب الذي يحصد كل يوم عدداً من العراقيين.
ولا يمكننا فهم هذا الفرق، إلا إذا استبعدنا التفسير الذي يدفع بأن الإرهاب الأصولي هو رد فعل على مظالم شديدة في حق المسلمين من جرائم الاعتداءات الإسرائيلية والسياسة الأميركية التي تؤيدها. فلو كان الإرهاب مجرد فعل، لكان يابانيون وصينيون وفيتناميون، وحتى ألمان هم رواد هذا الإرهاب، ولصار مؤسسو "القاعدة" وقادة جماعات العنف الأصولية تلاميذ في مدارسهم.
وإذا استبعدنا التفسير الذي يجعل الإرهاب رد فعل على مظالم، فلابد أن يتبع ذلك قبول التفسير القائل إن الإرهاب الأصولي الراهن يبدأ في العقل قبل أن يحدث في الواقع. فنقطة البدء فيه هي التأويل المتطرف لمفهوم الجهاد في الإسلام، وقد تم اختزاله في العنف. وقد بدأ هذا التأويل، في عصرنا الحديث في ثلاثينيات القرن الماضي في شبه القارة الهندية. وكان أبو الأعلى المودودي هو رائد هذا التأويل، قبل اغتصاب فلسطين وتحول الولايات المتحدة إلى قوة عظمى. فقد مزج المودودي بين تأويله المتطرف لمفهوم الجهاد الإسلامي والمفهوم الماركسي للنضال. وكان سيد قطب هو أول من نقل تأويل المودودي إلى الفكر العربي عبر تلميذه أبوالحسن الندوي، وذلك