رهان الأمم لا يكون إلا على إنسانها، فالاستثمار الذكي هو الذي يحث الخطى نحو الإنسان الذي لن يكسد سوقه كالعقار، ولن تهبط أسعاره كالأسهم، ولن يكون إلا أنه الاستثمار الأبقى والأذكى.
وكأن هذه القاعدة لا مكان لها هنا، ولا حتى ظل أو رائحة قادمة من بعيد، فكلما طالعت صحف الصباح، تفاجأ بإحالة موظفين إلى التقاعد، وبآخرين يشكون البطالة، ونحن الدولة التي تستورد الآلاف لتوظفهم وتمنحهم فرصاً للعمل لا تتاح إلا في جزر الأحلام الوردية. فلا زال الإنسان مشروعاً مؤجلاً، لم تُدرك بعد أهمية الحفاظ عليه، وبناء نسق مجتمعه ليتكاتف الجميع في البناء الراسخ عمقاً ومعنىً لا شكلاً فقط. فالاستثمار في الإنسان- إنسان هذا الوطن- هو من الأولويات المهمشة التي لا يمر عليها أحد، لدرجة أن مثل هذا المشروع يكاد يكون ملغياً أو منسياً أو لم يطرح للتداول من الأساس.
وإلا ما معنى أن تُحيل موظفاً أربعينياً إلى التقاعد، مهما كانت الأسباب، ومهما كانت قلة إنتاجيته؟ فحتى التقاعد يشكل عبئاً على كاهل ميزانية هيئة المعاشات التي باتت تشكو كثرة المتقاعدين الذين تحولوا إلى مشكلة تتفاقم.
والسؤال هنا: ما هي خطة الحكومة في استثمارها البشري، هل هناك خطة من الأساس؟ فالسياسة الإدارية تنادي بأهمية تدوير الموظف، إنْ فشل في موقع علينا أن نبحث له عن موقع يتناسب مع إمكاناته، وخاصة أن التعامل مع البشر كأنهم أسنان المشط فيه إجحاف بطبيعة الإنسان وحقوقه. فكل إنسان له إمكانات وقدرات تختلف من واحد إلى آخر، هذا التقييم هو الواجب أخذه في الاعتبار حين يُقيم موظف كونه فاشلاً أو ناجحاً.
ثم تأتي حكاية الفشل والنجاح التي لم تُحدد مقاييسها، فمثل هذه الأمور لها من النسبية شأن كبير، ففاشل من أي جهة؟ وناجح تحت أي اعتبار؟! ناهيك عن الموظفين الذين يقع عليهم غضب خجول، فيُقال لهم اجلسوا في أماكنكم، ولكن براتب وبعطاء يتساوى مع الصفر، كيف يمكن أن يُنظر إلى مثل هذه الحالات؟
تحديد النجاح والفشل به الكثير من الاعتبارات، ومنح الفرص حق الموظف البسيط الذي لابد أن تلتزم الدولة تجاهه.
وعلى النقيض تأتي البطالة -أم الكوارث- لتكون المأساة الأعظم التي لم يشعر بها إلا شاب طموح وشابة عشرينية طال انتظارها لدرجة اليأس وربما الانحراف والسقوط في فخ الفراغ وضيق ذات اليد. هذه الدراما طال بها الأمد، وحلولها ليست بالصعوبة التي يبالغ البعض في اعتبارها عقبات.
ولابد أن نكف عن الادعاء بأننا دولة تمنح أبناءها فرصة تعليم متميزة، فحتى مخرجات التعليم صارت سبباً مباشراً في تخريج دفعات بشرية فارغة من علم حقيقي له مساس حقيقي بحاجة سوق العمل وحاجة سياسة التنمية التي تحتاج إليها الدولة.
وإذا كان الإنسان المشروع الاستثماري الأهم مؤجلاً إلى اليوم، فمتى سيأتي الفرج؟ هذا السؤال لابد أن يسكن قلب المسؤول الذي قرر فجأة الاستغناء عن أشخاص اعتبرهم فائضين عن الحاجة، وقرر لهم الالتزام ببيوتهم، وهذه جريمة في حق الدولة قبل أن تكون في حق أي أحد آخر، لأنها دولة في حاجة إلى أبنائها دون استثناء ودون واسطة ودون أي شكليات مبررة.
هذا الاستنزاف البشري في حاجة إلى وقف وإدراك لضرورة إعادة النظر والاعتبار لإنسان الدولة، والاهتمام باستثماره بشكل يتساوى مع إنسانيته وصالح الوطن الأول والأخير..