أجمل الكتب التي توقظ الوعي وتشحذ ملكة النقد ليست كثيرة، وأعظم ما يعمله الفرد في بيته وضع مكتبة من ذخائر الكتب لا تزيد عن بضع مئات في فترة عشر سنين. وكتاب مثل القرآن غير التاريخ، وكتاب رأس المال لكارل ماركس تحول إلى إنجيل في يد الشيوعيين. والكتاب الأحمر لماوتسي تونج كان وقود الثورة الثقافية في الستينيات. وأقوى الكتب ما ثبت وبقي مع الوقت. مثل قوة الذهب واليورانيوم. والناس تقرأ حتى اليوم حكم كونفيشيوس، والطرق الثماني لبوذا، وهكذا تكلم زرادشت لفيلسوف القوة فردريك نيتشه. ويحلق ابن خلدون في مقدمته عبر القرون بكل جبروت فيطل من علو، أما كتابه في التاريخ فلا يقرؤه إلا المتخصصون. ودُمِّر فكر المعتزلة ولكن أفكار (إبراهيم النظام) في الطفرة ما زالت تستهوي (محمد إقبال) فيكتب عنه في تجديد التفكير الديني عن مغزى الزمن وحل معضلة زينون وميكانيكا الكم. ويعتبر (برتراند راسل) أن مئة دماغ في التاريخ تزيد وتنقص كانت خلف أسرار النهضة في أوروبا، ولو أجهضت بشكل أو آخر لسارت أوروبا قروناً أخرى في ظل محاكم التفتيش حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ونحن نظلم التاريخ حين نقول إن أفكاراً بعينها غيرت مجرى تدفق الأحداث؛ بل يجب النظر إلى روح العصر وتفاعل عناصر لا حصر لها في ولادة الأحداث، مثل انفجار الأمراض، وهو أمر نعرفه نحن الأطباء جيداً، ولذا كان الطب علماً والسياسة دجلا. وجانب كارل ماركس الصواب حينما زعم أن الاقتصاد خلف كل شيء، أو فرويد أن الجنس صانع التاريخ، فالتاريخ عصي على كل تفسير. ويحسن صنعا شرَّاح الفكر الفلسفي في جامعة (ماك جيل) في مونتريال حين يقولون للطلبة: يمكن أن نشرح لكم تدفق الأحداث من حيث انتهت، أما ماذا يحدث في الغد؟ فـ(علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى). والأشياء تبدأ صغيرة لتصبح كالسيل العرم، ولا يتفطن لهذا التطور كما يقول ابن خلدون إلا الآحاد من الخليقة. ومن ملأ بيته بكتب السحرة تحول إلى ساحر. وعندما أدخل بيت أحد الناس أعرف أين يعيش؛ فإن كان أعظم ما في البيت المطبخ والأواني عرفت أنه خارج إحداثيات الزمان والمكان يعيش مثل السينوريات. ودخلت بيت طبيب يوماً فرأيت الرفوف احتشدت بكتب ضخمة مذهبة العقب فسألني عنها حين رآني أشمشم الكتب قبل كل شيء؟ وهي عادتي في دخول أي بيت جديد. قلت له عليك ألا تغضب مني فأنت تعيش عصر المماليك البرجية أيام سعيد جقمق. والرجل فوجئ مرتين بالحكم القاسي، كما أنه لم يكن قد سمع بسعيد جقمق. وفي النماص من عسير تحدثت مع طائفة من مثقفي القوم فتحدثت عن ابن خلدون فاكتشفت أن بين القوم من لم يسمع بعد به؟ وحين تنسى الأمم رجالها من العقول المبدعة فتودع منها. وقبل أيام كنت أحدث شاباً متديناً عن رياض الترك الذي سجن سبعة عشر عاماً في الإفرادية، قال لم أسمع به؟ قلت له إنها أرض تجمع قومين من يعيش بيولوجياً وفكرياً، وتذكرت الأتراك في ألمانيا فقد يعمل العامل في مصانع تيسين للحديد عشرين عاماً، ولم يسمع عشرين كلمة عن هايدجر وكارل ياسبرز من عمالقة الفكر لأن ألمانيا تعني له عملا وعشاء وبرامج ترفيهية. وفي يوم خرجت من صلاة العشاء فحدثت طبيبا اختصاصيا في الجهاز الهضمي تخرج من جامعات فرنسية فحدثته عن توينبي المؤرخ العملاق قال لم أسمع به؟ قلت له إنها كارثة فكرية؟ زلقني بنظرة غاضبة وأجاب بحدة: هي كارثة عليك وليس لي؟ قلت له صدقت غلبتني. ومن قلب أميركا أرسل لي طبيب يدرس في أبحاث المناعيات قد تعلق قلبه بواعظ شعبي فتعجبت، وعرفت أن العقل المسلم منشطر قسمين فنصفه في الماء ونصفه في الطين كما جاء في ترهات مسيلمة الكذاب عن الضفدع؟.