كتب إليَّ من ألمانيا طالب عراقي رسالة إليكترونية يقول فيها بالحرف "أنا كإنسان أؤمن تماماً بفصل الدين عن الدولة, والديمقراطية ولكنني في ذات الوقت أشعر بالظلم الطائفي الذي وقع على أبناء طائفتي الشيعية في العراق منذ زمن طويل جدا يقارب عمر الإسلام. وعلى هذا أرى فيما فعلت أميركا تحريراً للعراق رغم كل المآسي التي صاحبت الحرب. هل مازلت تظن أن أميركا باحتلالاها للعراق قد عادت بشكل جديد من الاستعمار أم أن العصر اختلف وأن من مصلحة الشعوب العربية التحالف مع أميركا ضد الحكومات الفاسدة وفي ذات الوقت مساهمة المثقفين العرب أمثالك في إعطاء الروح لنهضة عربية جديدة؟ أشكرك على إجابتك ولكن إذا لم تجبني فسأشعر بإحباط كبير لأنني لو قمت بسؤال أحد أساتذتي هنا في الجامعة لقام بإجابتي بالتأكيد. وهذا ما أتوقعه منك أيضا".
ويلخص هذا السؤال لوحده مأساة العراق التي تمد جذورها في قاع التحولات السياسية للمجتمع العراقي ذاته في ما وراء تدخل الولايات المتحدة الأميركية وبصرف النظر عنها. فهو يعكس عمق الأزمة التي تعيشها الوطنية العراقية والتي تدفع إلى أن تكون للحدث نفسه، وهو هنا احتلال القوات الأميركية للعراق، قراءات متباينة بل متعارضة تماما بحيث إن ما يبدو عملية تحرير لفريق من المجتمع يظهر كعودة للاستعمار الصريح في أعين الفريق الآخر. وهو ما يدل على زوال المرجعية الواحدة التي لا غنى عنها في أي سيرورة بناء وطني والتي تشكل وحدها الأساس العميق للتضامن والتكافل والمصير المشترك. وهو ما يفتقد إليه الشعب العراقي اليوم كما يبدو من تعدد القراءات وجداول الأعمال للأطراف العراقية المتعددة.
وبعكس ما تشيعه الأوساط القومية في سعيها المشروع لإدانة الاحتلال وتحميله تبعات ما يحصل اليوم في العراق، لم يكن الغزو الأميركي منشيء هذا التفكك وإنما الكاشف له بقدر ما مثل الحدث الذي وضع الوطنية العراقية على المحك. وهذا التفكك هو الذي يفسر الانسداد الحاصل في الوضع العراقي والذي يتجلى من جهة في استمرار الاحتلال في العراق، بالرغم من الإخفاق المريع للحملة الأميركية وتفاقم توجه واشنطن نحو ما يشبه الورطة الفيتنامية، كما يتجلى من جهة ثانية في عجز المقاومة العراقية التي أثبتت قدرة غير متوقعة على المواجهة والاستمرار عن الانتصار. فتحقيق مثل هذا الهدف، بما يعنيه من استعادة استقلال البلاد وتأكيد سيادتها ووحدتها، يستدعي تجاوز انفراط عقد المجتمع السياسي العراقي الذي أتى بالاحتلال وتراجع المخاوف من أن يتحول الانتصار، مع استمرار التنابذ الراهن بين الطوائف والقوميات المختلفة، من تحرير للعراق إلى مواجهة عراقية- عراقية.
ومن هنا لا ينفصل مصير الاحتلال ومساره عن ديناميكيات الصراع الخاصة بالمجتمع المحتل نفسه. وهذا يذكرنا بأمثلة تاريخية كثيرة سابقة استقبلت فيها شعوب أو فئات كبيرة منها الغزاة استقبال الفاتحين أملا في التحرر من قهر النخب الفاسدة المستبدة والجائرة. وهذا ما حصل للشعب العراقي أو لجزء كبير من قواه السياسية التي سعت جميعاً، وليس فقط أحمد الجلبي وإياد علاوي، إلى التحالف مع الولايات المتحدة للقضاء على نظام أصبح عقبة أمام تقدم المجتمع وازدهاره.
لكن الاعتراف بمسؤولية النظام الشمولي البعثي عن الانقسام الطائفي والقومي الخطير الذي دفع العراق إلى الانزلاق في هذه الوضع المأساوي لا يغير من طبيعة العمل الذي قامت به الولايات المتحدة ولا من مسؤولياتها في ما وصل إليه العراق أيضاً من خراب وتخريب. فالتدهور الذي شهده الوضع الأمني بعد العراق هو النتيجة الطبيعية للأسلوب الانفرادي والعنجهي الذي اعتمدته واشنطن في مواجهة النظام الشمولي ولسوء معالجتها الكبير للأزمة العراقية. ولا يمكن فصل هذا الأسلوب ولا تلك المعالجة عن غاية الاحتلال نفسه، أي عن حقيقة أن الولايات المتحدة لم ترسل قواتها إلى العراق لتحرير الشعب العراقي وإنما لتحقيق أهداف استراتيجية تخدم مصالحها القومية العالمية وفي مقدمها استكمال سيطرتها على منابع الطاقة الرئيسية للدول الصناعية بالإضافة إلى استغلال موقف الضعف العربي الشامل من أجل إنهاء النزاع العربي الاسرائيلي لصالح إسرائيل ولتكريس مكتسباتها الاستراتيجية. فلا ينبغي للقراءات الذاتية التي تعكس المصالح والرؤى المتناقضة للأطراف المحلية أن تطمس القراءة الموضوعية التي ترى في الحدث تعبيراً عن نزوع القوة العالمية الأعظم إلى إعادة هيكلة المنطقة الشرق أوسطية بما يتفق مع استراتيجية سيطرتها العالمية. وهو ما تؤكده الدبلوماسية الأميركية ذاتها.
إن ما يفسر بقاء الاحتلال في العراق بالرغم من الفشل الذريع لخطط البنتاغون العسكرية هو انقسام العراقيين أنفسهم وغياب أي أجندة وطنية عراقية. وفي مقابل ذلك تتنازع العراق وتتقاسمه ثلاث أجندات طائفية وقومية رئيسية أولاها وأقواها نفوذا الأجندة الكردية التي تسعى إلى التعامل مع الاحتلال حسب ما يفيد في تحقيق حلم الاستقلال وتستفيد من الوقت لرسم حدود الدولة الكردية الجنينية أو المستقبل