لماذا يتجاهل مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل ما ينشر في الصحف المحلية، حول ما يمكن أن يوصف بـ"عجائب وغرائب" القضاء السعودي؟ إن القضاء من أعز ما نملك، وباستقامته تستقيم الحياة، والثقة به واجبة، والاطمئنان إلى عدالته أساسية، ولو اختل أمر واحد مما سبق، لكان له تأثير سلبي على المجتمع كله، وعلى مكانة المملكة داخلياً وخارجياً، وبالتالي لا يجوز أن تسكت الجهات المعنية بالقضاء على ما يمكن أن يوصف بحملة تشويه له إذا كان كذباً وافتراءً، وفضيحة للقضاء وأهله إن كان صحيحاً.
إن الصحف تقوم بدورها المتوقع عندما تنشر "تجاوزات" القضاة، وليس من الصحيح والصحي اتهامها بجعل العامة يتجرؤون على هيبة القضاة، إذا كان ما تنشره صحيحاً، وطالما أنها تتصل وتتمنى لو يتجاوب معها مجلس القضاء أو تتواضع لها وزارة العدل، فترد على استفساراتها وتوضح لها ما خفي وأشكل أمره. إن وزارة التجارة لا تستنكف أن توضح لصحيفة، حقيقة وجود ذبابة في مشروب غازي، ووزارة العمل تجيب لو سأل صحفي لماذا لم تشمل الزيادات الموظفين على هذا البند أو ذاك، ووزارة الخارجية تسارع بالتوضيح لو اشتكى مواطن اتصل بسفارة بلاده في بلد ما ولم يجد من يعاونه، أما مجلس القضاء الأعلى المعني بشؤون القضاء والقضاة فلا يرد ولا يوضح على مسائل لها علاقة برقبة مواطن مهدد بالقصاص بعد أن يحاكم مرتين في التهمة نفسها، أو مواطن آخر يخرب بيته ويسلب حق حضانة أبنائه منه لأن في بيته "دش" استقبال محطات فضائية!
أتمنى ألف مرة أن تكون صحيفتا "الوطن" و"الرياض" مخطئتين على أن يكون ما نشرتاه صحيحاً. القصة الأولى اشتهرت وأصبحت حديث المجالس وعرف بها القاصي والداني، نشرت صحيفة "الرياض" أن مواطناً اشتكى من أن قاضياً في محكمة الرياض حكم لزوجته غير المطلقة منه! بحق حضانة أولادهما لأن في بيته "دش" استقبال قنوات فضائية! وأطلع المواطن الصحيفة على الحكم الغريب الذي جاء فيه: "إنه بناء على ما تقدم من الدعوى والإجابة وبما أن المذكور من الأولاد تقل أعمارهم عن سبع سنوات وبأن البنت يزيد عمرها على ذلك وبأن المُدعي قد أقر بوجود "الدش" في بيته، وأنه يعرض القنوات العربية، وقد عرف واستيقن ما تعرضه هذه القنوات من أفلام ومسلسلات تؤثر على أخلاق أولاد المسلمين وتجرهم إلى الانحراف ومجانبة الطريق المستقيم، وبما أن البنت غالباً وقتها في البيت، فهي بلا شك ستتأثر بذلك، وبما أن الحضانة يُنظر فيها بالأصلح للطفل المحضون، فقد صرفت النظر عن دعوى المدعي بعدم استحقاقه للحضانة". ما سبق نص من حكم قضائي سيسجل في ملفات المحاكم السعودية للتاريخ والدرس والعبر وليس كلام مجالس لا يُعتد به.
نُشرت هذه القصة في 9 يوليو الماضي ولم يهتم مجلس القضاء الأعلى بعد بالتوضيح أو النفي أو الإثبات، وحيث إن "القياس" من أدوات الفقه والقضاء في الشريعة الإسلامية، فمن حقي أن أقلق بصدور حكم قضائي غريب كهذا، يمكن أن يكون سابقة يعتمد عليها قضاة آخرون، ففي بيتي "دش" استقبال محطات فضائية وغربية أيضاً، وأستطيع أن أثبت لفضيلة القاضي الذي أصدر الحكم، أن هناك ملايين غيري من المواطنين السعوديين واقعون في نفس"الخطيئة"، فبماذا سيحكم علينا فضيلته لو انتهينا بين يديه؟ هل يُعقل أن يصدر حكم كهذا ولا يكلف أحد نفسه في الجهة المعنية بأمر القضاء وما آل إليه ويعلق عليه.
القصة الثانية أدهى وأمر، نُشرت في صحيفة "الوطن" قبل أسبوعين لشاب من حائل، اتهم في جريمة قتل، فحوكم وبُرئ من القتل العمد الذي فيه قصاص، وأُدين "بقتل شبه العمد" وميّز الحكم، وأُلزم بالدية فدفعها، فأُطلق سراحه وطُوي قيده، واعتقد أنه استأنف حياته بعد أن نال نصيبه من العقاب على تهوره يوماً، ولكن يُقبض عليه مجدداً بعد 3 سنوات ويُحاكم على نفس التهمة الأولى ويُحكم عليه بالقصاص هذه المرة، ولا زال في السجن يستنجد بالمسؤولين وجمعية حقوق الإنسان، إنه مذهول، ومعه أيضا، كل حقوقي سعودي، وكل من يعرف ولو قليلاً من علوم الشريعة الإسلامية، فالمُجمع عليه ألا يُحاكم الإنسان مرتين في الجريمة نفسها، فهذا مبدأ مقدس تجده في الأحكام الوضعية في كل الدول، وسبقتها إليه الشريعة الإسلامية بعدلها المستمد من كتاب الله وسنة رسوله. سألت من يعرف في الشريعة، فأحالني إلى كتاب "شرح منتهى الإيرادات وشرح كشف القناع"، قال إنها كتب الفقه الحنبلية المعتمدة في محاكمنا، وإنها عالجت هذه المسألة وحسمتها بأنه إذا حكم قاضٍ في قضية، فلا يجوز لغيره النظر فيها ما لم يعترض "المحكوم"، وهذا لا يحصل إلا نادراً، فالمحكوم يستأنف لو صدر حكم في غير صالحه، ولكنه لا يعترض لو بُرئ. مسألة معقدة تستحق اهتمام أهل الفقه والفكر، يبذلون فيها مجهوداً يفيد لو ناقشوها في الصحف عوضاً عن انشغالهم بموضوعهم المفضل "مضار قيادة المرأة للسيارة".
مرة أخرى، رغم أهمية الموضوع، وتماسه مع أهم مبادئ عدالة القضاء، لم يلفت الموضوع برمته مجلس القضاء الأعلى أو وزارة العدل. رغم أن مراسل "الوطن" فعل الشيء الصحيح، فاتصل برئيس محا