قال صاحبي: شرحت مفهوم الهوية بمثال كرة القدم، ثم ختمت بطرح مسألة الهوية في العراق، كما هي مطروحة اليوم، وفي الحالتين معاً احتفظت في تعريفك للهوية بكونها عبارة عن دوائر تمثل كل واحدة منها "الأنا" الذي يهيمن في وقت من الأوقات. وحسب ما فهمت - يقول صاحبي- فإن "الأنا" عندما يتمركز في دائرة من الدوائر، كدائرة "المدينة" في مثال كرة القدم، فإنه يتخذ من الدوائرالأخرى "آخر" له، مثل دائرة الحي، ودائرة القطر... إلخ. وسؤالي -يقول صاحبي- يخص تطبيق هذا على مثال العراق! لقد ذكرت الشيعة والسنة والأكراد... إلخ، أفلا يصح القول إن كل واحد من هذه الأطراف يتحدد من خلال علاقته بالأطراف الأخرى، فيكون "الأنا الشيعي" مثلاً يتحدد من خلال "الآخر السني" أو العكس؟
قلت لصاحبي: أنت تتحدث هنا عن دائرة من دوائر الهوية، وهي دائرة المذهب الديني. ومع أن هذه الدائرة تلعب دوراً خطيراً في الصراعات الاجتماعية والسياسية، حيث يلبس الشأن الاجتماعي والسياسي لباس مذهب ديني، فإنها لا تشكل هوية بمفردها. فالصراعات المذهبية الدينية تستشري أيضاً داخل المذهب الديني الواحد. وعندما كان الصراع بين الشيعة والسنة مهيمناً في تاريخ الإسلام -خلال القرون الوسطى- عد مؤرخو الفرق في كل من الشيعة والسنة عدداً هائلاً من الفرق: فالشهرستاني مثلاً جعل الشيعة خمس فرق كبرى تنقسم كل منها إلى عدد من الفرق بحيث وصل مجموع فرق الشيعة إلى ما يقرب من ثلاثين فرقة، منها سبع فرق تندرج تحت "الإمامية" التي تنتمي إليها شيعة العراق وإيران في الوقت الحاضر. أما السُنة كـ(مقابل للشيعة والخوارج والإسماعيلية) فقد جعلها ثلاث فرق كبرى هي: المعتزلة، الجبرية، الصفاتية، وكل واحدة منها تضم فرقاً متفرعة أو منشقة عنها ليبلغ الجميع نحو عشرين فرقة. هذا الإحصاء قام به الشهرستاني في القرن السادس الهجري. ومنذ ذلك الوقت انقرضت فرق، ولكن قامت فرق جديدة.
ويقال اليوم إن عدد الفرق المنضوية تحت لواء "الشيعة" يبلغ رقماً مدهشاً! وذلك هو شأن المذاهب الدينية، فهي تقوم على تفتيت الهويات، في الوقت الذي يعتقد فيه أصحابها أنهم يبنون لهم هوية. والدين ككل لا يشكل هوية إلا بالتقابل مع دين آخر، فالإسلام يمكن القول عنه إنه هوية للمسلمين ولكن فقط ضداً على دين آخر كاليهودية والمسيحية. أما داخل الإسلام، فليست هنا هوية واحدة تضم المسلمين جميعاً، بل هنالك هويات لا حصر لها داخل الإسلام، بعضها سياسي الطابع (الدولة والوطن) وبعضها اجتماعي (القبيلة والعرق)... إلخ. وقل مثل هذا في الديانات الأخرى، بما في ذلك ما كان منها أقل عالمية من الإسلام.
ومعروف أن الفرق المذهبية الدينية لا تتردد في تكفير بعضها بعضاً، كل واحدة تعتبر نفسها الممثلة وحدها للدين، حدث هذا في الإسلام وخارج الإسلام، وفي هذه الحال يتحول الدين من جامع للأمة إلى مفرق لها.
من أجل ذلك أرى أنه في عصر العولمة -بصورة خاصة- أنه بدلاً من الكلام عن هوية دينية ينبغي الكلام عن الهوية الثقافية، وسيكون الدين أو المذهب الديني جزءاً منها، أو دائرة من دوائرها. وبما أننا نتحدث في هذه المقالات عن الهوية في إطار العولمة، فقد ينبغي أن نبدأ أولاً برسم إطار عام للعلاقة بين العولمة والهوية الثقافية بشكل عام.
وأول ما ينبغي تأكيده هنا، هو أن الثقافة لا يمكن أن تقع تحت مقولة العولمة لسبب بسيط، هو أنه ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، بل ثقافات... ونحن نقصد بـ"الثقافة" هنا: ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية ما، تشكل أمة أو ما في معناها، بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء. وبعبارة أخرى إن الثقافة هي "المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت، والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل".
تلزم عن هذا التعريف، لزوماً ضرورياً، النتيجة التالية، وهي أنه: ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام، وإنما وجدت، وتوجد وستوجد، ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة. من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع، ومنها ما ينعزل حيناً وينتشر حيناً آخر.
والهوية الثقافية هي في الغالب مستويات ثلاثة: فردية، وجمعوية، ووطنية قومية. والعلاقة بين هذه المستويات تتحدد أساساً بنوع "الآخر" الذي تواجهه. إن الهوية الثقافية كيان يصير، يتطور، وليست معطىً جاهزاً ونهائياً. هي تصير وتتطور، إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم، بانتصاراتهم وتطلعاتهم، وأيضاً باحتكاكها سلباً وإيجاباً مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير من نوع ما.
وع