يتمحور الجدل الذي طال أمده بشأن الدستور العراقي حول مسائل معينة منها الفيدرالية ودور الإسلام كمصدر للتشريع وما إذا كان سيتم السماح لحزب "البعث" الذي حكم البلاد في الماضي بقبضة من حديد، والذي أجبره الاحتلال الأميركي للعراق على النزول تحت الأرض، بالحصول على موقع في الساحة السياسية العراقية أم لا.
المسائل السابقة حاسمة، غير أنها تنطوي في الجوهر على عدد من الأسئلة الأخرى التي تعتبر في رأينا أكثر أهمية، والتي يأتي على رأسها السؤال الخاص بما إذا كانت الدولة العراقية في المستقبل ستكون موحدة أم ممزقة؟ أو بمعنى آخر: هل ستكون قوية أم ضعيفة؟
فإسرائيل التي قام أصدقاؤها الأميركيون من "المحافظين الجدد" بالدفع بقوة وإلحاح شديد لشن الحرب على العراق، رحبت بتدمير دولة عربية كانت قوية ذات يوم، كما أن موقفها الاستراتيجي ازداد قوة بشكل كبير بعد إطاحة صدام حسين، وحل قواته المسلحة لأن إبقاء العراق ضعيفاً على الدوام يزيل تماماً وبضربة واحدة أي تهديد لها من جهة الشرق.
والولايات المتحدة تعلن أنها تؤيد بقاء العراق موحداً ولكن سياساتها تكذب أقوالها، حيث قامت في الحقيقة بترويج النموذج الفيدرالي باعتباره النموذج الذي يجب أن يكون عليه العراق مستقبلاً. فضلا عن ذلك، قامت الولايات المتحدة التي تخوض حرباً ضد الأصولية الإسلامية وضد المقاتلين من القوميين العرب، باللعب على ورقة الطائفية في العراق لأنها تعلم تمام العلم أن العراق غير المركزي والمقسم بين الأكراد والشيعة والسنة لن يكون بوسعه التصدي للهيمنة الأميركية في منطقة الخليج الحيوية والغنية بالنفط.
تحت نظام صدام وسابقيه من الحكام سواء من البعثيين أو القوميين، وتحت حكم الأسرة الهاشمية التي نصبها البريطانيون في بغداد 1921 والتي حكمت حتى عام 1958، كان العراق دائماً دولة عربية رئيسية. والحقيقة أن العراق كان يحمي الحدود الشرقية للعالم العربي، بل إن صدام حسين خاض حرباً شرسة ضد إيران استغرقت ثماني سنوات من 1980-1988 لكبح جماح الثورة الإيرانية التي قادها آية الله الخميني. وخلال تاريخه الحديث، لعب العراق دوراً مهما داخل الأسرة العربية، وفي تحقيق توازن القوى الإقليمي، كما كان منذ عام 1948 يمثل دائماً نوعاً من المعادل لإسرائيل. وقبل ذلك بقرون كانت بغداد شأنها في ذلك شأن القاهرة ودمشق، تمثل قطباً رئيسياً من أقطاب القوة والحضارة العربية.
والسؤال المحوري الذي يطرحه الجدل الدستوري الدائر حالياً في بغداد هو عما إذا كان العراق الجديد سيستمر النظر إليه باعتباره دولة عربية، وهل سيواصل لعب دوره الإقليمي كقوة عربية أم لا. بعض الناس مثل الأكراد، بل وبعض الشيعة المبالغين في تدينهم، سيفضلون إسقاط كلمة "عربية" تماماً من التعريف الدستوري للعراق. أما بالنسبة لجميع السنة، ويمكن للمرء أن يخمن أيضاً، معظم العرب الشيعة، فإن ذلك سيكون بمثابة تجاوز صارخ سيعملون بكل قوتهم من أجل تصحيحه.
وعندما يقوم السُنة بالتعبير عن معارضتهم للفيدرالية، فإنهم لا يسعون فقط إلى الدفاع عن مصالحهم الطائفية الضيقة، وإنما يريدون أيضاً أن يضمنوا نصيبهم من نفط العراق الذي يقع معظمه في المناطق الكردية في الشمال والشيعية في الجنوب. كما أنهم يريدون إلى جانب هذا وذاك أن يضمنوا أن العراق سيظل - كما كان دائماً– منارة للحضارة ومدافعاً صلداً عن القومية العربية تحت حكومة مركزية قوية.
وإذا ما طرح الدستور العراقي للاستفتاء في شهر أكتوبر المقبل، كما هو متوقع على نطاق واسع، فإن العرب السنة سوف يسعون إلى عرقلته. فهم لا يحبون فكرة وجود حكومات كردية أو شيعية إقليمية تتمتع بصلاحيات واسعة، كما أنهم لا يوافقون على قيام كل إدارة من الإدارات المحلية بالاحتفاظ بقوات أمنية خاصة بها، لأن ذلك سوف يقوض تقويضاً خطيراً أية إمكانية لبناء جيش عراقي وطني قوي، وهو الجيش الذي كان – تقليدياً- يشكل العمود الفقري للدولة.
هناك سؤال محوري آخر مطروح في الجدل الدائر حالياً وهو ذلك المتعلق بالوجود الأميركي في العراق، وبمستقبل العلاقات العراقية الأميركية.
والأمر المؤكد تقريباً هو أن النظام العراقي الحالي الذي يرأسه رئيس كردي هو جلال الطالباني، ورئيس وزراء شيعي هو إبراهيم الجعفري، لن يكون قادراً على البقاء إذا ما تم سحب القوات الأميركية ولذلك فإنهم، الأكراد والشيعة، لا يريدون هذا الاحتمال. ولكن الأمر المؤكد هو أن السواد الأعظم من العراقيين - ومن ضمنهم المتمردون الناشطون بالطبع- يريدون أن يروا الأميركيين وهم يغادرون البلاد. فالأميركيون الذين دمروا الدولة العراقية وقتلوا عشرات الآلاف من العراقيين ليس لهم إلا قليل من الأصدقاء في العراق – غير الرجال الذين قاموا بوضعهم في السلطة بالطبع. فقط الأكراد الذين ينعمون بالاستقلال الذاتي، والمدينون بالفضل حالياً للأميركيين، سوف يكونون سعداء ببقاء الأميركيين في العراق في المستقبل المنظور.
في خطابه الذي ألقاه الأسبوع الماضي قال الرئيس الأ