لا يختلف اثنان على أهمية وجود الدستور بالنسبة لأية دولة معاصرة، خاصة إذا كانت هذه الدولة خارجة من عقود من الديكتاتورية المقيتة، والحروب العبثية، والصراعات الداخلية، والاحتقان المستديم الذي يهدد السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية، هذا طبعاً إضافة إلى واقع الاحتلال، كما هو حال العراق الآن. ولكنّ ما يثير القلق هو هذا التجاذب بين مختلف الطوائف والأحزاب والشخصيات السياسية العراقية حول الدستور المقترح الذي تضغط الإدارة الأميركية بكل الوسائل، من أجل تمريره، أو الدفع به إلى مرحلة الاستفتاء بهدف انتزاع موافقة شعبية عليه. ودافع القلق هنا واضح، وهو الفقرات الملغومة، والعبارات التي تكرس في الواقع التفتيت والتمزيق الطائفي والمذهبي والمناطقي باسم الفيدرالية حيناً، وباسم الدفاع عن مكانة الدين في النسق السياسي والتشريعي للدولة العراقية المستقبلية حيناً آخر.
فالأكراد كما يبدو، مصممون على جعل "دولتهم" أمراً واقعاً، وتغليب مصلحتهم لا مصلحة العراق الواحد، وذلك من خلال محاولاتهم المستميتة تهجير وطرد العرب والتركمان من كركوك، وضم المدينة إلى إقليمهم وكأنه "دولة أجنبية" مجاورة للعراق ابتداءً من الآن، ورسم حدود هذه "الدولة" بدقة. أما السجال حول دور الدين في الدولة العراقية الجديدة كما جاء في الدستور ، فكان يمكن وضعه في إطار عام ينزع عنه أي شبهة استغلال أو توجيه طائفي أو مذهبي مثير للقلق. خصوصاً مع تهميش دور العرب السنة في تقرير مستقبل العراق الجديد.
وليس هذا كل شيء، بل امتد "التلغيم" أيضاً إلى مسألة الهوية العراقية، أعني هوية العراق نفسه كدولة وكشعب. فالفقرة التي تقول:"إن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية"، هذه الفقرة لا معنى لها بموازين المصلحة العراقية العليا، فالعراق دولة مؤسِّسة للجامعة العربية، والعروبة ليست انتماءً عرقياً عنصرياً حتى يتم تمييز عرب العراق دون غيرهم ووضعهم في خانتها. والشيء الذي يجعل دولة ما عربية هو انتماؤها إلى هذا المجال الحضاري المستند إلى موروث الحضارة العربية الإسلامية والمتحدث باللسان العربي. وفي معظم الدول العربية توجد أقليات لا تتحدث العربية ولكن هذا لم يدفع يوماً للنقاش عن مسألة عروبة هذه الدول أو عدم عروبتها. لأن "العروبة" هنا مفهوم ثقافي مرن وواسع وغير مؤطر باعتبارات عرقية أو حتى قومية. ومن هنا كان يفترض أن يتم تجاهل انتماء العراق أو جزء من مواطنيه "عرقياً" أو قومياً أو سمِّه ما شئت، والاكتفاء بانتماء جميع مواطني العراق إلى هوية واحدة هي "دولة العراق" نفسها، لأن ذلك أوفق بلغة المساواة وبمنطق دولة القانون التي ينتمي إليها الجميع ويتساوى في ظلها الجميع، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم.
لقد وقع الكثير من الأخطاء السياسية منذ حرب تحرير العراق، وآخر ما يحتاجه العراقيون لبناء مستقبل بلدهم هو تكريس وتقنين بعض هذه الأخطاء وإعطاؤها صفة الاستدامة وأولها طبعاً إقصاء شرائح واسعة من العراقيين وجعل هذا الاستبعاد أمراً واقعاً لا تزحزح عنه، وكأنه لا يمكن بناء العراق الجديد إلا على "جثة" هذه الطائفة أو تلك. كما أن هذا الاستبعاد يمكن أن يؤدي بالدرجة نفسها إلى إسقاط الدستور نفسه في الاستفتاء القادم من خلال التصويت عليه بـ"لا" من قبل السواد الأعظم من المواطنين، ليعود العراقيون بعد ذلك إلى المربع الأول من الجدل الحالي وكأن شيئاً لم يكن. وستكون هذه خسارة كبيرة لمستقبل العراق بكل تأكيد، لأن وقتاً ثميناً للغاية سيكون قد أهدر في جدل لا طائل من ورائه.