في زمن كان، كان العراق منارة للعلم للتحرر، امتزجت فيه روح الأصالة بالتحرر باختلاط الأعراق والأديان، فكانت البصرة قبلة للتجارة في الخليج، وكانت بغداد مركزاً حضارياً لروح الاختلاف والتجديد يوم كانت بلاد الرافدين قبلة للفن والشعر العتبات المقدسة وحركات تحرر المرأة. كان العراق لكل الأطياف، سيمفونية لتجانس الاختلاف، كانت البصرة حسرة لمن لم يرَها، وحسرة لمن رآها ولم يُقِم فيها كما تحكي أمثالنا الشعبية الإماراتية. لا نبالغ ولا نرسم صورة وردية، فالتركة الثقافية والعلمية العراقية تتحدث عن نفسها، فكانت المرأة العراقية رائدة في العلم والفن في مجتمع كان وما يزال محافظاً، حتى كانت أكبر نكسات العراق السياسية بوصول حزب "البعث" للسلطة لتبدأ ثلاثة عقود من الاضطهاد والرعب كانت حصيلتها هروب مبدعي العراق للمنفى وجمود، إن لم يكن، انتكاسة المجتمع العراقي، فشهد وضع المرأة العراقية تدهوراً على يد النظام العسكري، ومن الجنوب طرزت الأعلام السوداء بيوت الأرامل إبان الحرب العراقية الإيرانية وقادسيات صدام في الكويت والعراق، فعانت المرأة العراقية إلى جانب الرجل في مواجهة تسلط السلطة السياسية وتسلط المجتمع.
والآن وبعد سقوط نظام المقابر الجماعية والبدء في إعادة ترتيب البيت العراقي من الداخل، ومع كل الآمال المعلقة على إقرار الدستور وبناء مؤسسات الدولة العراقية وخروج قوات الاحتلال الأميركي، ها هي مسودة الدستور العراقي القادم، والتي تم نشر موادها في وسائل الإعلام، تثير أكثر من قضية خلافية. لكن ما نود أن نركز عليه في هذا المقام هو عنوان واحد وهو حقوق وحريات المرأة العراقية، فماذا أعطى الدستور للمرأة العراقية؟ وماذا انتزع منها؟ وما هي علامات الاستفهام التي أثارها موضوع حقوق المرأة في مسودة الدستور؟ والى أين ستمضي المرأة العراقية؟
تنص المادة السادسة من الباب الثاني الخاص بالحقوق الأساسية والحريات العامة على أن "تكفل الدولة الحقوق الأساسية للمرأة ومساواتها مع الرجل في الميادين كافة طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية وتساعدها على التوفيق بين واجباتها نحو الأسرة وعملها في المجتمع". بينما تنص المادة الأولى من الباب الثاني على أن "العراقيين كافة متساوون أمام القانون بصرف النظر عن الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي ويمنع التمييز بينهم بناء على ذلك". في الحقيقة تثير هاتان المادتان أكثر من تساؤل مشروع نظراً لتناقضهما الفاضح، فالمادة الأولى تكفل المساواة أمام القانون بغض النظر عن كون الشخص ذكراً أو أنثى، بينما تشير المادة السادسة إلى أن مساواة الرجل والمرأة هي طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وفي هذه العبارة تقييد لما تم إطلاقه في المادة الأولى. هذا على مستوى عبارات النص الظاهرة، أما على مستوى تفسير المادة، فهي تحمل أكثر من معنى وأكثر من إشكالية في ظل مجتمع متعدد المذاهب والأديان وتخضع التقييد لأكثر من عملية تفسير، وهو على عكس ما هو سائد في صياغة مواد الدساتير خاصة المواد الخلافية حيث تنص عادة مواد الدستور على المبادئ العامة، بينما يترك أمر تفسير مواد الدستور إلى القوانين واللوائح والتي تُفصّل الأحكام، لذا فالمادة السادسة تترك الحبل على الغارب في تفسير حدود التقييد والإطلاق فيما يتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة، وهي بذلك تفتح المجال لظهور التأويلات الذكورية المتخصصة في اغتصاب حقوق المرأة وتحجيم منجزات المرأة ومساواتها بالرجل باسم الدين وباسم الشريعة وبعبارات بالية فرغت منذ قرون من محتواها على شاكلة "أن الإسلام أعطى للمرأة كافة حقوقها"، لينتزعها منها الرجال في حقيقة الأمر، و"أن الإسلام قد أكرم المرأة" بينما أهانها المجتمع الذكوري كما نرى. لذا كانت مطالبة المرأة العراقية بإزالة اللبس ونفض الغبار عن فقرات الدستور العراقي مهمة، فهذه الفقرات يمكن أن تفسح المجال لتفسيرات واجتهادات تُستغل ليتم الالتفاف على حقوق المرأة العراقية وتضحياتها. وكانت المادة السادسة كفيلة بإشعال معركة دستورية صعدت فيها المنظمات النسائية في العراق من حملتها لضمان عدم تقييد الدستور الجديد لحقوق المرأة العراقية، وتحددت مطالب المنظمات النسائية وناشطات حقوق المرأة بالمطالبة بدستور مدني يحتوي على كل حقوق الفئات الوطنية ومساواة المرأة مع الرجل وعدم ربط حقوق المرأة بالشريعة في بلد متعدد الأديان والمذاهب، والعمل من أجل الاهتمام بالمنظمات الدولية التي تخدم المرأة، وكذلك الأخذ بمبدأ المواطنة لكل المواطنين وعدم اعتماد الأعراف العشائرية كنص ثابت في الدستور.
تمارس الأحزاب والتحالفات السياسية العراقية من شيعة وعرب وأكراد لعبة سياسية للحصول على أكبر قدر من التنازلات في اللحظات الأخيرة وتركز في خطابها على القضايا الكبرى من وجهة نظرها كالفيدرالية وتقاسم الثروات، ووضع الشريعة الإسلامية، واسم الجمهورية العراقية إسلامية أم جمهورية علمانية وتتخذ تلك التحالفات من لج