جلست متكئاً على الكرسي الخشبي في حديقة الهايدبارك اللندنية الشهيرة، أراقب عن كثب حركة جميلة للسناجب الصغيرة التي تتراكض وكأنها ترقص، وتوحي إلي نفسي أنها ربما كانت تحلم بالطيران كلما قفزت، والأطفال الصغار من حولها يقذفون لها بحبات من الأكل الذي يبدو أنها تستلذه.
هذه زيارتي الأولى إلى لندن، بل هي زيارتي الأولى إلى بلد غربي، لا أزعم أنني أعرف الغرب من خلال قراءتي، ولكنني أسلّي نفسي أن لي تصوراً خاصاً كونته عبر قراءات متواضعة في فترات متباينة فيها كتب تاريخ عامة وخاصة، وفيها كتب فكرية وثقافية وروايات وقصائد وفلسفات، ولكنني اكتشفت الآن أن كل ذلك لا يمنحني أي حق في تصوّر المجتمع الغربي أو الغوص الحقيقي في شخصيته.
إن التفاصيل الصغيرة هي التي تواجهك، لتكون تجسداً عملياً للنظريات الكبرى. ما رأيت من تلك التفاصيل أبهرني!.
لا أدري ما الذي كان يجول في خاطري على ذلك الكرسي الخشبي النائي في الهايدبارك حتى أعادني لسنوات الطفولة البريئة، في تلك القرية النائية من قرى نجد "مصدة" حيث درجت أيامي الأولى.
لا أذكر من الأيام الأولى شيئاً كثيراً، ولكن سنوات الطفولة العابثة لازالت تمدني بشيء من روح البراءة يلطف ما ثار حولي بعده من عواصف الحياة، رحت أتذكر على ذلك الكرسي ذلك الطفل الذي يلعب مع أترابه لعبة "الغميمة" حيث يغمض أحدنا عينيه فيقوم الآخر بوضع عدد من كوم التراب الصغيرة بيده في أماكن متفرقة على الأرض، ومهمة الآخر هي البحث عنها واحدة واحدة بعد فتح عينيه، وكنا نلعب كذلك بـ(الدنينة) أو (الدنانة) كما ننطقها في قريتي الصغيرة، حيث تؤخذ عجلة لإحدى الدراجات المعطلة توضع في طرف قضيب حديدي ويقودها الطفل بيده وكأنه يقود أبهى السيارات، وكنا نلعب ما نسميه (صلبه) فنهرب جميعاً من شخص أو شخصين ثم يلاحقوننا ومن أمسكوه وضعوه في سجن نخطه بأقدامنا على التراب، ولحقوا بالآخرين وعلى أصحابه أن ينقذوه عبر لمسه!.
لم نكن نربي السناجب ولم أرَ سنجابا في حياتي حتى هذه اللحظة، ولكننا كنّا نربي القطط، لأنها تقتل الفأر المخرب والعقرب القاتلة، وتوفر شيئاً من التسلية للأطفال.
وصلت لندن قبل أيام واكتشفت أن الفتى العربي فيها ليس غريب الوجه واليد واللسان كما كان يقول المتنبي عن "شِعب بوان"، ولكنها مكتظة بالعرب والمحلات العربية والأكلات العربية والسياسة العربية أيضاً.
لم أكد أنزل المطار حتى اكتشفت أن لغتي الإنجليزية أقرب ما تكون إلى اللغة العربية كما ينطقها محمد سعد الفنان المصري في فيلمه "عوكل"، كنت أتوقع مساءلة من نوع ما في المطار، لأنني وصلت لندن في فترة احتقان أمني بعد التفجيرات الأثيمة التي ضربتها، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ودخلت مثل باقي عباد الله آمناً مطمئناً.
كان أحد الأصدقاء ينتظرني في شقته في لندن وأوصاني بإلحاح ألا أركب إلا على "البلاك تاكسي"، أو "البلاك كاب" وأعطي سائقه العنوان من رسالة في هاتفي المحمول كان أرسلها لي، وبالفعل ما أن وصلت للتاكسي الأسود حتى منحته العنوان وأطلقت العنان لعيني لتلتهم كل ما تراه، كنت أريد أن أعرف كل شيء عن لندن في تلك اللحظة، تاريخها حضارتها ثقافتها ناسها، لقد كنت أحاول التقاط كل تفصيل مهما كان صغيراً، فأنت لا تعرف بلداً ما لم تتقن تفاصيله الصغيرة.
لاحظت في الطريق أن المباني أغلبها قديم، أو على الأقل طرازها وتصميمها قديمان، وقارنتها مباشرة بنيويورك ولوس أنجلوس فوجدت فرقاً شاسعاً بين جلالة العتق هنا وإبهار الجدّة هناك، لا أقول ذلك لأني زرت نيويورك أو لوس أنجلوس ولكنني أعرفهما أكثر من لندن بسبب الأفلام الأميركية التي تغزو العالم وترسم أميركا حلماً كما يردد توماس فريدمان وآخرون.
وصلت لغايتي مخفوراً بالهيبة والاستشراف والتطلّع للاكتشاف، ولم يألُ مضيفي جهداً في ضيافتي، وتصارع العربيان على الكرم العربي فأصر أن أسكن عنده وأصررت على الخروج، وعقدنا صلحاً أن أبيت ليلة في ضيافته ثم يساعدني في اختيار مكان مناسب، وهكذا كان.
أدب الرحلات في التاريخ الإنساني من أمتع الآداب وأكثرها قرباً من النفس، إنه أشبه ما يكون برواية مثيرة، يحشد كاتبها لك تفاصيل صغيرة عن بلدان لم ترَها، وبشر لم تعرفهم، وأشياء وأشياء، وفي الأدب العربي من ذلك كم كبير زاخر، عملت بعض المراكز العلمية مؤخراً على جمعه وإخراجه ضمن سلسلة متتابعة، وبعض الرحالة العرب لم يكتفوا بسرد عجائب ما رأوا، ولكنهم حدثونا بعجائب لم يروها ولم يرَها أحد من البشر غيرهم من قبل ومن بعد! وربما يفسر جزءا من ذلك مساحة التعلق بالخرافة في الثقافة العربية، فحدثونا عن جزر الواق واق، وجزيرة النساء التي ليس فيها رجال قط، وأن النساء يلقحن من الريح ولا يلدن إلا النساء، في أعاجيب لا تنتهي!.
كان السكن الذي نزلت فيه فندقاً صغيراً قريباً من شارع "إدجور رود" أو لندنستان كما أحب أن يسميه صديق عزيز منحني نصف ساعة في سيارته، رأيت فيها من لندن ما لم أرَه في أسبوع كامل!.
لاحظت لحظة الوصول أن مط