منذ اليوم الأول لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل الشهيد رفيق الحريري في 14 فبراير الماضي، والهجوم الاتهامي الشرس يطال سوريا وما زال يطولها حتى اليوم، وسوريا ومريدوها ينفون ويرفضون الاتهامات... إلا أنهم يتصرفون عكس ذلك.
آخر التصرفات التي لم تكن "لا على البال ولا على الخاطر"، كانت في الطريقة التي تناولت بها سوريا قضية التحقيق في اغتيال الشهيد الحريري ورفاقه. كان المفترض أن تكون سوريا أول من "يتبرع" ويقدم المعلومات الأمنية والشهود، وأن يفتح المسؤولون السوريون الذين طلب المحقق الألماني ديتليف ميليس لقاءهم أبواب مكاتبهم لذاك القاضي المعروف بنزاهته ليسألهم ويجيبوا... و"يا دار ما دخلك شر".
إلا أن ذلك لم يحصل. واضطر ميليس إلى تقديم إحاطته إلى الأمم المتحدة والتي ذكر فيها بالاسم التقصير السوري، وإن لم يقرأ الاسم أمام مجلس الأمن بسبب وساطة روسية-جزائرية... وفي إحاطته أعرب ميليس عن "الأسف" لعدم رد سوريا على طلباته التي جاءت في رسائل إلى السلطات السورية. والطلبات هي مقابلة مسؤولين سوريين عملوا في لبنان ومقابلة الرئيس بشار الأسد، ومد التحقيق ببعض المعلومات والوثائق المحددة.
لماذا تصرفت سوريا مع ميليس، وما يمثله لدى الرأي العام العالمي، وكأنه سائق شاحنة محملة بالفاكهة اللبنانية،و(لطعته) على خط المصنع أسابيع ولم تلب طلبه؟
ولماذا، ما أن دب الصوت في الأمم المتحدة وانتصب الميزان، حتى توجه ديبلوماسيان سوريان واجتمعا بميليس في جنيف، وأعلنت سوريا استعدادها للتعاون مع المحقق وتنوير التحقيق؟ أهي مراوغة أم لعبة سياسية أم حكاية شد حبال؟
بين لبنان وسوريا كل شيء له علاقة بـ"السياسة"، وكل صغيرة وكبيرة مسيسة، من التعيينات الأمنية إلى تجارة الحدود إلى ملف التهريب إلى تعيين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب والوزراء... إلخ.
بعد انتفاضة الرابع عشر من مارس، لا مجال لأنصاف الحلول، ولن يرضى اللبنانيون بتسييس ملف التحقيق، وإن هدأوا في الفترة الأخيرة وتركوا الأمور تسير بما يرضي الله و"ماشي الحال"، فهذا لا يعني أنهم سيتركون الجريمة تمر.
كل لبناني يريد أن يعرف الحقيقة، ويريد أن يقاصص المجرم أياً كان، مَن خطّط ودبّر ونفذ وأهمل. تقول بعض المصادر إن آل الحريري وبعد ساعة من استشهاد رئيس الوزراء السابق، كانوا على علم ودراية بمن خطط ودبّر، لكنهم أجمعون رفضوا البوح بانتظار نتائج التحقيق. وإلى أن يعلن عن المجرم أو المجرمين، واضح أن كل الأفعال السياسية في لبنان معطلة ومتوقفة بدءاً بملف التعيينات الأمنية، وصولاً إلى أداء حكومة فؤاد السنيورة ككل، التي تتعثر بين العِصي والدواليب المحلية والإقليمية والدولية.
وإلى أن ينكشف المستور -إذا كان لا يزال مستوراً- لا نرى ضرورة لخلق جو من التخويف وإشاعة الشكوك والأسى في عقول وقلوب الناس، بذر الشائعات التي تهول على لبنان وتشير إلى أن الأيام القادمة بعد إعلان نتائج التحقيق ستكون ناراً وخراباً على الجميع.
عندما تعلن نتائج التحقيق، وتذاع الحقيقة، لن تشب الحرائق في لبنان كما يهولون. شيء واحد سيتغير، ستعود بعد سنوات من الغدر والتخوين والتخويف، الكرامة لكل لبناني... والثقة بأن القانون موجود بالفعل، وليس حكاية من حكايات (سفر برلك)، التي كانت جداتنا يروينها في ليالي الشتاء.