ينسب الكثيرون المادية للغرب والروحانية للشرق، وتُبنى على هذا التقسيم نظريات تشمل الفلسفة والأدب والنفسية والمزاج، بل وحتى الاقتصاد! إذ يقول البعض إن الكرة الأرضية التي نعيش فوقها، يمكن تقسيمها إلى نصفين، إذا مزجنا الواقع المادي بالقيم الروحية، فنجد فقراً روحياً في الشمال، وفقراً مادياً في الجنوب!
إن العلاقة بين التدين والفقر مثار جدل فلسفي واجتماعي واسع، فهل الرفاهية المادية تضعف المشاعر الدينية في الفرد والمجتمع؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فهل الأفضل للعرب والمسلمين إذن، أن يبقوا فقراء معذبين في الأرض، لئلا يتزلزل إيمانهم بالارتقاء المادي والثراء ويفقدوا دينهم بالغنى؟
لا أحد يجادل في ثراء الغرب، فمعظم المال والتقنية والعلم في تلك الدول، تقرير البنك الدولي لعام 2000 مثلاً، يؤكد الحقائق الآتية عن ما يسمى بالشمال والجنوب:
الناتج القومي الاجمالي للولايات المتحدة 8351 مليار دولار، ونصيب الفرد أكثر من ثلاثين ألف دولار. واليابان ناتجها القومي نصف الناتج الأميركي 4078 مليار دولار، فألمانيا نصف اليابان 2079 مليار. وبينما يتفوق نصيب الفرد الياباني الذي يبلغ 32 ألف دولار من هذا الناتج، يقل دخل الفرد الألماني عن الاثنين، أكثر من 25 ألف دولار بقليل. (الصين 980 مليارا ونصيب الفرد 780 دولارا، والهند نصف الصين442 مليارا ونصيب الفرد 450 دولاراً فقط).
وإذا اخترنا نماذج فقيرة جداً ومتوسطة من جنوب الكرة الأرضية، أو "الجنوب السياسي"، الذي قد يشمل معظم العالم الإسلامي وأفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية، فقد نرى "توغو" في أفريقيا، حيث لا يزيد ناتجها القومي عن مليار ونصف المليار دولار ونصيب الفرد من هذا الناتج 320 دولارا، وموريتانيا التي يبلغ ناتجها مليار دولار ومتوسط نصيب الفرد 380 دولاراً.
ويبلغ ناتج بنغلادش القومي 47 مليار دولار، ولكن عدد السكان عام 1999 كان 128 مليوناً، ولهذا كان نصيب الفرد يقل حتى عن موريتانيا (3 ملايين نسمة) ليصل إلى 370 دولاراً. أما بوليفيا، فيزيد ناتجها عن 8 مليارات، لسكان يبلغون 8 ملايين نسمة، وهكذا يبلغ نصيب الفرد ألف دولار فقط!
ومن المؤسف، كما هو معروف، أن الفجوة المادية بين البلدان الغنية والفقيرة آخذة في الاتساع، ما يعكس فشل محاولات التنمية في أكثر من دولة فقيرة. وتقول إحصائية البنك نفسه إنه "في عام 1960، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أغنى 20 بلداً، أكبر من نصيبه في أفقر 20 بلداً بمقدار 18 مرة. وبحلول عام 1995، كانت الفجوة قد اتسعت لتبلغ 37 مرة".
ونعود إلى بداية المقال، فنرى مجموعة من الأسئلة الملحة: هل الثراء أو الغنى نقيض الروحانية والشعور الديني، والفقر والعوز هما البيئة المناسبة لنموهما؟ هل مادية الثري تزيل من نفسه كل المشاعر الروحية، وهل تدين الفقير خالٍ من "الأحلام والتمنيات المادية البحتة"؟ هل "الفقير الصبور" أنقى روحياً وتديناً من "الغني الشكور"؟ هل الخشوع والبكاء والتضرع أرقى أشكال الممارسة الروحية، أم التأمل في الكائنات والكواكب؟
هل من يتعبد ويؤدي الطقوس في أي دين من الأديان، أكثر روحانية ممن يغوص في تاريخ الإنسان ومشاكل البشر؟
هل الروحانية في أن يحاول المرء أن ينجو بنفسه من مغريات الدنيا وينكب على العبادات، أو أن يكرس حياته لإنقاذ مجتمعه أو العالم؟ وإذا كان الشرق أو "الجنوب" روحانياً، والغرب أو "الشمال" مادياً، فهل كان الحال على هذا المنوال عبر القرون؟
هذه كلها، وأسئلة كثيرة مماثلة، تحتاج إلى المقالات والمجلدات للخوض فيها. وكم نحن بحاجة إلى بحوث علماء الاجتماع واللاهوت والفلسفة، وإلى الاستبيانات والإحصائيات، للوصول إلى إجابات واضحة لها. هذا بالطبع، إن سمحت السلطات الثقافية والأكاديمية في العالم العربي.. وما أبعد ذلك!
المادية في الواقع، ربما بدأت عندنا في المشرق! فقد ظهرت أقدم الحضارات الكبرى في الشرق، في الصين والهند، وبلاد فارس وأرض الرافدين، ودول الشام واليمن ومصر. وكلها عرفت الجيوش والسلاح والحصار والقلاع والقتال. وكلها خلفت مباني وهياكل لا يزال بعضها قائماً. فكلها قامت على أسس مادية صلبة، وفي كل حضارة منها، انغمس الكثير من الملوك والقادة والحكام، وفيما بعد عدد لا يستهان به من الخلفاء والسلاطين في الملذات الحسية، بالطبع وللأسف الشديد، على حساب حسن الإدارة ومستقبل الحضارة أو الخلافة.
وفي معظم، إن لم نقل كل حروب حضارات المشرق، بما في ذلك حروب المسلمين، اهتم الفاتحون، إلى جانب أشياء أخرى، بالغنائم المادية من مال ومجوهرات ورقيق وسبايا. كما اهتموا في مجال تعزيز نفوذهم ببناء مؤسسات الحكم المختلفة وتنظيم القضاء والبريد والدواوين وسك العملة وبيت المال.
وتتحدث المراجع التاريخية عن دور المال والبذل في الدولة العباسية، وإسراف الخلفاء ونسائهم. وكان هذا حال الكثير من حكام وأباطرة الحضارات الشرقية وكذلك النخبة الحاكمة والتجارية والمتنفذين. وفي أوج الحضارة و"الحياة ال