يشكل الانسحاب من قطاع غزة فرصة سانحة لدراسة ديناميات القوة بين جيش حديث ومتطور وإعلام معاصر ومتمكن. فمن يا ترى سيكون المنتصر في هذا الصراع الدائر بين الآلة العسكرية والآلة الإعلامية؟ لكي تعرف الجواب ما عليك سوى أن تفتح جهاز التلفزيون وتراقب جيدا. لم يكن من الصعب على جيش الدفاع الإسرائيلي أن يسحق الفلسطينيين، لكنه فضل في المقابل أن يشرف على إخلاء اليهود من مستوطنات غزة تحت الأنظار المغتبطة للفلسطينيين. والسبب وراء ذلك أن وسائل الإعلام الدولية ورفيقها المقرب المتمثل في الرأي العام الدولي انتصرا على الطموحات التوسعية لإسرائيل.
فبالنسبة لإسرائيل بدأت تطرح مسألة الدفاع عن 8500 يهودي محاطون بـ 1.3 مليون فلسطيني عبئا يفوق التحمل، حيث قتل 17 جندياً إسرائيلياً في السنوات الأخيرة في معرض دفاعهم عن مستوطنة نيتزاريم المعزولة في قطاع غزة. وبالطبع كان بإمكان الإسرائيليين استخدام آلتهم العسكرية الهائلة ضد الفلسطينيين ليحولوا أراضيهم إلى مناطق مقفرة أو مقابر جماعية. فليس خافيا أن التطهير العرقي وارتكاب المجازر كان في وقت سابق أمرا شائعا في بناء الدول، بما في ذلك بعض "الدول المحترمة" كما يمكن أن يشهد على ذلك الهنود الأميركيون. بيد أن القرار الإسرائيلي أحجم عن ذلك تحت تأثير القانون الدولي والرأي العام العالمي جاعلاً الجيش الإسرائيلي يتردد أمام التهجير الجماعي ويلغي فكرة الإبادة الجماعية.
وللتخلص من صورة الجيش الذي يبطش بالمدنيين، قامت إسرائيل بحماية مستوطنات غزة بالاعتماد على تكتيكات الشرطة ذات الوطأة الخفيفة. وفي هذا السياق قام الجنود الإسرائيليون بحراسة نقط التفتيش وتنظيم دورياتهم بعربات عسكرية مصفحة كثيرا ما تعرضوا فيها لرصاص الفلسطينيين. ومع كل المهارات المتطورة التي يجيدها الجيش الإسرائيلي- العديد من أفراده يتكلمون العربية- فشلت إسرائيل في المحافظة على أمن وسلامة المستوطنات بتكلفة معقولة. فلم تكن الشجاعة لتنقص الفلسطينيين الذين نفذوا الهجمات الانتحارية ضد الإسرائيليين معتبرين إياهم محتلين لأراضيهم. ومرة أخرى ساهمت وسائل الإعلام في ترجيح ميزان القوى لصالح الفلسطينيين، حيث ساعد الإعلام العربي في تأجيج مشاعرهم ومنحهم الأمل في إمكانية تحقيق النصر. ففي ظل بيئة تضج بوسائل الإعلام من الصعب الحفاظ على موقف سلبي، أو عدم الانخراط في الصراع. ومن جانبهم لم يتنازل الفلسطينيون قيد أنملة للإسرائيليين المنسحبين. فتارة يصرح رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس بأمور مشجعة عن الإسرائيليين، وتارة أخرى يعود ليصر على "حق العودة" بالنسبة للفلسطينيين إلى داخل إسرائيل، فضلا عن أن استمرار حكومته في وصف الانتحاريين بالشهداء. وبالطبع تتبنى حماس التي باتت قاب قوسين أو أدنى من المشاركة في السلطة موقفا أكثر تشددا يدعو إلى تدمير إسرائيل.
النتيجة أن الآلة العسكرية الإسرائيلية بكل جبروتها تعجز أمام كاميرات الإعلام الدولي وتنهزم أمام صورها المبثوثة في جميع أنحاء المعمورة. لذا استنتجت إسرائيل أن معركة قطاع غزة لا تستحق كل ذلك العناء وفضلت الانسحاب والحفاظ على ماء وجهها. لكن في المقابل ترى إسرائيل أن الضفة الغربية منطقة حيوية بالنسبة لها، لذا تقوم ببناء جدار يهدف إلى عزل اليهود عن العرب. ومن هذا المنطلق ستصبح الأراضي الواقعة داخل الجدار ملكا أبديا لإسرائيل، أما تلك التي بقيت خارجه فهي للفلسطينيين. وبالتأكيد يستنكر الفلسطينيون بناء الجدار ويعتبرونه غير شرعي لأنه يقضم بعضا من أراضيهم، وهو ما يشرع الأبواب أمام تجدد الصراع بين الطرفين. ولعل السبب الرئيس وراء بناء الجدار هو تجنب مبدأ "العين بالعين" الذي تلجأ إليه إسرائيل ويصورها في العالم على أنها المعتدية على حقوق الفلسطينيين والمفرطة في استعمال القوة ضدهم. لكن حتى لو تمكنت إسرائيل من إبعاد الكاميرات من بؤرة النزاع، فإنها لن تستطيع إيقاف الصراع الذي سيتحول مع الوقت إلى حرب باردة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"