بنفس تلك الطريقة القديمة والمألوفة، ساهم ارتفاع الضحايا الأميركيين في العراق في تغذية المزيد من الشك والمخاوف لدى الجمهور حول الحرب في العراق. فقد تغير رأي الأميركيين وأصبح أكثر من نصفهم يعتقدون أن غزو العراق كان خطأً. ولعلهم محقون في ذلك. لكنه سيكون من الخطأ سحب قواتنا في هذه اللحظة، أو البدء في سحبها، أو حتى تحديد موعد انسحابها. وفي المقابل نحن في حاجة إلى استراتيجية واضحة المعالم لإقامة دولة ديمقراطية تنعم بالسلام والاستقرار في العراق فشلت الإدارة الأميركية إلى حد الآن في بلورتها على أرض الواقع.
وأعتقد أنه منذ انطلاق جهود ما بعد الغزو التي كانت ترمي إلى فرض الأمن وإعادة إعمار العراق، كنا في حاجة إلى انتهاج استراتيجية ذات ثلاثة أبعاد: بعد دبلوماسي، وبعد سياسي، ثم بعد عسكري. فالمعلوم أن الموقع الجغرافي للعراق جعله في خط التماس بين الإسلام الشيعي والإسلام السني، لذا فإنه يتعين علينا، لكي نضمن نجاح مهمتنا في العراق، أن نضطلع بدور المشجع على التعاون الإقليمي، وليس دور المؤجج للصراع بين القوى المختلفة. غير أن الإدارة الأميركية للأسف لم تقدر الفائدة الحقيقية للمسار الدبلوماسي فراحت تنتهج دبلوماسية عشوائية تقتصر على إطلاق الوعود والتصريحات الرنانة، فضلا عن الاتصالات غير الكافية مع كافة الفرقاء السياسيين، وهو ما أفضى إلى نتائج عكسية بعيدة عن الأهداف المنشودة. وقد أسهم الفشل الأميركي على الصعيد الدبلوماسي في مضاعفة التحديات التي تعترض البعدين السياسي والعسكري من الاستراتيجية الأميركية في العراق، خصوصا بعد زيادة أعداد المتسللين من الجهاديين عبر الحدود، واشتداد قوة التمرد التي فاجأت القوات الأميركية.
وعلى صعيد المسار السياسي، فإنه على الرغم من أهمية الأهداف الأميركية المعلنة بإقامة حكومة عراقية ديمقراطية وشرعية، إلا أن الولايات المتحدة أبدت بطأً شديدا في الدفع بالعملية السياسية العراقية إلى الأمام وتوفير سبل نجاحها. فقد أُهدرت السنة الأولى في تشجيع المليشيات الطائفية، وبروز قوى تجزيئية، ولا أعرف لمَ تم انتظار وقت طويل قبل أن ترسل واشنطن سفيراً إلى بغداد. واليوم تتعرض المسيرة السياسية للعرقلة ليس فقط بسبب غياب الأمن، ولكن أيضاً بسبب غياب بنية تحتية قادرة على توفير خدمات الكهرباء والغاز للأهالي وضمان حصولهم على الوظائف. وبموازاة ذلك فإن المسار العسكري يعاني هو الآخر من عدة مشاكل ليس أقلها انعدام الأمن على الأرض واستمرار العمليات المسلحة التي يقوم بها المتمردون. كما أن القوات الأميركية تنقصها الموارد اللازمة والإرشادات الضرورية للنهوض بحجم المهام الموكلة إليها. وقد انتظر الرئيس بوش إلى شهر يونيو الماضي، بعد مرور أكثر من سنتين على بدء مهمة تدريب القوات العراقية ليعلن عن خطوات جديدة مثل مشاركة القوات العراقية في العمليات العسكرية، ووضع فرق خاصة للعمل مع الوحدات العراقية، ثم تدريب الجهات العراقية على مكافحة الإرهاب. بيد أنني في كل تلك الخطوات لا أرى أي جديد يختلف عما كانت عليه عملية إعادة الإعمار في فيتنام. فأين الآلاف من الخبراء اللغويين المدربين؟ وأين هي الموارد اللازمة المخصصة للبرامج الإنمائية التي من شأنها كسب "عقول العراقيين وقلوبهم"؟ وأين هي تلك العمليات الدقيقة والذكية للقوات الأميركية في مجال إحكام مراقبة الحدود؟
ومع تفاقم الأوضاع بدأت تتقلص احتمالات نجاحنا في العراق. لذا فنحن في مسيس الحاجة إلى تغيير استراتيجيتنا قبل فوات الأوان واضطرارنا إلى الانسحاب كحل أخير.
والبداية يجب أن تكون من المسار الدبلوماسي، حيث يتعين على الولايات المتحدة عقد مؤتمر يضم الدول المجاورة للعراق، وإنشاء لجان تنكبُّ على معالجة كافة القضايا الاقتصادية والسياسية على الصعيد الإقليمي، بما في ذلك التجارة البينية وتنظيم الرحلات عبر الحدود، وإقامة مشاريع تهتم بالبنية التحتية تهدف إلى الحد من تسلل الجهاديين. بالإضافة إلى ذلك يتعين على الولايات المتحدة التخفيف من نبرتها الحادة تجاه الدول المجاورة والعمل على الإصغاء إلى الأصوات الصادرة من المنطقة. والأهم من ذلك أن تقوم واشنطن بالتعهد بعد إقامتها لأية قواعد عسكرية دائمة في العراق لتهدئة المخاوف وتأمين المساندة العراقية والإقليمية لخططنا. وفيما يتعلق بالمسار السياسي، فإن التركيز على تحديد موعد للاتفاق على الدستور النهائي يعتبر أقل شأناً من مضمون الوثيقة نفسها. ومن هذا المنطلق يتعين على القيادة الأميركية مساعدة كافة القوى العراقية على التوصل إلى تسوية تضمن عدم تعدي "الخطوط الحمراء" الخاصة بكل طائفة معينة والسعي إلى نشوء دولة يقبلها جيرانها ونساندها نحن. وهو ما يتطلب عدم منح الأكراد سلطة التصويت على الانفصال، والإقرار بدور محدود للإسلام، والسماح بحكم ذاتي ضيق في الجنوب، بالإضافة إلى منع استمرار المليشيات المسلحة الخاصة. هذا وتحتاج الولايات المتحدة إلى الحصول على تفويض قانوني من الحكومة العراقية يسمح لها