البابا بنديكت: محافظ في زمن التحديات!


 في ضاحية ماريانفلد الصامتة عند أطراف مدينة كولونيا في منطقة الغرب الألماني، أقام بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر قداساً تابعه يوم الأحد الماضي نحو 250 مليون مشاهد عبر شاشات التلفاز في أنحاء العالم، إثر انتهاء الدورة العشرين للأيام العالمية للشباب والتي انطلقت في السادس عشر من أغسطس الجاري، وشارك فيها مليون شخص، وتوجت في يومها الأخير بحضور الحبر الأعظم الذي قدم إلى كولونيا في أول رحلة له خارج روما منذ وصوله إلى السدة البابوية، فكانت فرصة له كي يخاطب أتباعه في جهات العالم، وأيضا لكي يزور بلده ألمانيا. وقبل مغادرته كولونيا قال البابا في المطار: "كلنا مدركون للشر الذي جاء من وطننا خلال القرن العشرين، وإننا نعترف به بخجل وألم"، وربما تكون في ذلك إشارة قوية إلى "ماضيه النازي"، حيث ذكر في كتابه "ملح الأرض" الذي يروي خلاله سيرته الذاتية أن والده كان نازياً، كما ذكر كيف أصبح وهو في سن الرابعة عشرة، إلى جانب شقيقه "غيور"، عضواً عاملا في الشبيبة النازية التي أسسها هتلر، كما تحدث عن تطوعه في وحدات الدفاع الجوي الألمانية مطلع الأربعينيات من القرن الماضي.


لقد أوصل البابا إلى العالم إذن إدانته الشديدة للنازية، لكن موجة الفيضانات المدمرة التي تجتاح إقليم بافاريا حاليا لم تتح له أن يرى بلدته ماركتيل حيث ولد لعائلة زراعية بافارية أصيلة عام 1927، وتربى على يدي والده الذي كان يعمل ضابط شرطة ولم يكن متحمسا لرؤية ابنه المراهق يتابع دراسته في معهد اللاهوت بمدينة ميونيخ. ولا تخلو حياة البابا الحالي، كما كتبها هو على الأقل، من مظاهر التحول والتقلب، فبعد أن قطع دراسته الدينية أثناء الحرب العالمية الثانية، نراه خلال ثورة الطلبة عام 1968 شاباً ليبرالياً مولعاً بدراسة الفلسفة، ثم أستاذاً لعلم اللاهوت والعقيدة في جامعة رتيزيونا الألمانية، قبل أن يعينه البابا باولو الرابع أسقفا لمدينة ميونيخ، ثم عضوا في كلية الكرادلة منذ عام 1981 تاريخ انتقاله إلى روما! وفيما يقول عنه أنصاره إن تجربة الحكم النازي أقنعته بأنه يتعين على الكنيسة أن تقف إلى جانب الحق والحرية، يتهمه منتقدوه بالتشدد وبأنه أصولي محافظ يعارض أي نقاشات حرة داخل الكنيسة، خاصة أنه تولى خلال 20 عاماً رئاسة "مجمع عقيدة الإيمان" الذي يطلق عليه البعض "محكمة الإيمان"! ولعل الحقيقة هي أن بنديكت، ومن خلال تصريحاته وكتبه التي يأتي على رأسها كتابه "الرب والعالم"، كان ممثلا للتيار المحافظ داخل مجمع الكرادلة، خاصة في قضايا مثل الإجهاض والطلاق والشذوذ الجنسي واستخدام موانع الحمل وتحديد النسل ودخول النساء في سلم الكهنوت المسيحي وزواج الكهنة، إضافة إلى أنه عارض "لاهوت التحرر" في انحيازه إلى جانب الفقراء والمقهورين، وأدان النضال الذي مارسه كهنة أميركا اللاتينية ضد حكومات ديكتاتورية، وساند مساعي البابا الراحل من أجل إعادة الكنيسة الكاثوليكية إلى ما قبل المرحلة "المسكونية" في بداية الستينيات حينما تم إدخال بعض الإصلاحات الليبرالية.


في يوم 19 ابريل 2005 وبعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني بأيام قليلة، اجتمع في كنيسة سيستين بقاعة الفاتيكان الشهيرة 117 كاردينالا لاختيار الحبر الأعظم، وبعد ساعات رأى آلاف الكاثوليك المحتشدين في ميدان القديس بطرس دخاناً أبيض يصعد من مدخنة في أعلى الكنيسة، ثم أطل من شرفة المقر البابوي الكاردينال الألماني جوزيف راتسينغر ليعلن أنه البابا بنديكت السادس عشر، تيمنا بالبابا الإيطالي بنديتو الخامس عشر (1914- 1922)، وبذلك أصبح راتسينغر ثاني بابا ألماني بعد 950 عاماً على انتخاب مواطنه ليون الحادي عشر، والخليفة رقم 265 للقديس بطرس مؤسس الكنيسة الكاثوليكية، كما أصبح صاحب السلطة الزمنية والدينية العليا في حاضرة الفاتيكان التي تعد دولة ذات سيادة لا تزيد مساحتها عن 108 أفدنة داخل روما.


وتتصف المرحلة التي تسلم فيها راتسينغر سدة المنصب البابوي، بصعوبات أهمها أن جزءا من المكانة التي ظلت تكتسبها الكنيسة منذ عام 1978 إنما يعود إلى شخصية البابا يوحنا بولس الثاني وتأثيره المبهر، ومنها أيضاً تضاؤل القدرة على التجاوب مع التحولات الفكرية- المجتمعية العميقة التي تشهدها أوروبا وأميركا منذ عقود، بما في ذلك ظهور طوائف مسيحية جديدة دفعت البابا بنديكت السادس عشر إلى تحذير أتباعه من الخروج على مبادئ العقيدة واختراع الديانات التي تروق لهم، كما أقر في زيارته الأخيرة لألمانيا بالظلال القاتمة التي تلقيها ظاهرة إقدام بعض كهنة الكنيسة على ممارسة الشذوذ الجنسي، وما أدى إليه ذلك من سمعة سيئة بحق الكنيسة! وفيما هيأت الظروف التاريخية في حينه للبابا الراحل أن يلعب دوراً في محاربة الشيوعية وإسقاطها في بلده بولندا، فإن المرحلة الراهنة لا تتيح للبابا بنديكت السادس عشر دوراً يضاهي دور سلفه، وإن بدا متعطشاً إلى موقع يناسب