بصمتٍ ربما يتسم بشيء من الحكمة، وبعد مرور سنوات طويلة على معاناة التعليم العام ما دون الجامعة في الإمارات من جوانب سلبية متعددة، تحاول السلطات المختصة جعل مدارسنا أماكن أكثر ترحيباً للتعلم، للناشئة المواطنة. وهنا لابد أن تتساءل الجهات الفنية القائمة على الإصلاح عن مكامن الخلل في العملية التعليمية: هل هي في المنهج الدراسي أم في الطالب أم في المدرس أم في الإدارة سواء كانت المدرسة أم الجهات المختصة في الوزارة، أم في نقص الإمكانيات المادية أم في ذلك كله؟ وتأتي هذه التساؤلات من الاهتمام والقلق القائم بشأن الأداء الطلابي.
إن النقاش لا زال يدور بين العديد من الأوساط المهتمة بالتعليم في الدولة، سواء كانت رسمية أم شعبية؟ حول الاتجاه الذي يسير نحوه نظامنا التعليمي. وفي معظم الأحيان يأخذ النقاش اتجاهات متضادة ولكنه يتعلق بنقاط محددة هي: هل يتلقى الطلاب تعليماً يخدم الأهداف الوطنية العليا؟ وهل يؤدي أبناؤنا أداءً تعليمياً أفضل أم أسوأ في هذه المرحلة مما كان يؤدى قبل عام 1979؟ إن عام 1979 يشكل نقطة تحول دراماتيكية في تاريخ التعليم في الإمارات عندما أتت رياح التغيير بعملية أدلجة واسعة النطاق للمناهج الدراسية المستخدمة بعد أن تم التحول إلى منهج وطني.
وإذا ما كان لي أن أنظر نظرة مستقبلية إلى ما قد يحدث بالنسبة لنتائج عملية إصلاح التعليم الحالية، فإن البوصلة تشير إلى أن نظام التعليم الإماراتي يهدف حالياً إلى الأخذ بالمرونة في داخل الفصول الدراسية، وإلى تقديم المزيد من الميلان الإيجابي نحو الطرق المرنة في التعلم. وهذه الأساليب الجديدة ستكون مستمدة من النظم المستخدمة في الدول المتقدمة التي ثبتت جدواها في تخريج طلبة قادرين على التفكير السليم والابتكار عوضاً عن الحفظ والتلقين استعداداً للامتحان النهائي، ثم بعد ذلك نسيان كل شيء، وربما تمزيق الكتب ونثر أوراقها في الطرقات.
إن الطريقة الحديثة التي نتكلم عنها تقوم أساساً على التخفيض من الساعات الدراسية التي يقضيها الطالب في داخل الفصل، وتخفيض كمية المادة العلمية التي يتلقاها في كل حصة في صالح أنشطة لا صفيّة وممارسات تساعد الطالب على التفكير والابتكار في خارج الفصل. وثبت من الدراسات العلمية التي أجريت حول هذا الموضوع في الدول المتقدمة أن هذه الطريقة تجعل من المدرسة أكثر متعة للطالب، مما يزيد من إقباله عليها وعلى التعلم بشكل عام. ونحن نعلم في الإمارات أن المناهج الدراسية التي تم وصفها بأنها وطنية في الفترة من 1979-2004، ابتعدت عن تنمية الإبداع الخلاق لدى الطالب وملكة التفكير الحر المستقل لديه واكتساب مهارات القدرة على حل المشكلات، وأخذت مساراً جديداً نحو التلقين، وتفريغ المناهج العلمية الخاصة بالرياضيات والعلوم البحتة واللغات الأجنبية من محتواها، والزج بمادة لا تنتمي إليها في ثناياها خدمة لأيديولوجيا سياسية معينة، هذا إلى جانب ما تم القيام به من نزع كامل للقضايا المتعلقة بهموم الوطن الإماراتي المباشرة والتركيز على هموم نطاق جغرافي أوسع ليس له صفة شرعية دولية محددة، وذلك على أساس من أضغاث أحلام أيديولوجية لا تمت إلى هموم الإمارات بشكل مباشر.
وفي سياق عمليات لا أزال أبحث عن تفسير منطقي لها، وأعتقد أنها أضرت بالعملية التعليمية أكثر مما أفادتها، تم من خلالها أولاً استبدال الأسبوع الدراسي من ستة أيام إلى خمسة، في نفس الوقت الذي خفضت فيه أيضاً ساعات الدوام المدرسي اليومي، فأصبح إجمالي عدد الأيام التي يقضيها الطالب في المدرسة سنوياً يقل عن 200 يوم في الوقت الذي يصل فيه عدد أيام العام الدراسي في الدول المتقدمة إلى 290 يوماً. وثانياً، ألغيت حصص بعض المواد التي تساعد على الإبداع وتنمية المواهب الشخصية كالتربية الفنية من رسم وتصوير وتمثيل، ومواد الموسيقى، كما تم تقليص مواد التربية الرياضية. وقد يكون الأمر مبرراً لو أن إلغاء هذه المواد الحيوية جاء في صالح زيادة الأوقات المخصصة للرياضيات والعلوم واللغات التي هي أساس وعصب العملية التعليمية في كل قطر متقدم، بل إن التخفيض جاء في صالح قضايا أخرى قد لا يكون هذا هو المجال المناسب للخوض فيها.