الضغط الهائل من الولايات المتحدة الذي صاحب صدور الدستور العراقي ليل الاثنين الماضي، عبّر عن رغبة الإدارة الأميركية في الحصول على إنجاز سياسي في العراق يمكن أن يعطي شرعية لغزو هذا البلد، في وقت تنادت أصوات عدة في الولايات المتحدة مطالبة بإنهاء تواجد الجنود الأميركيين في العراق.
والحقيقة أن أي نظام سياسي عالمي يتوسع في مناطق جديدة من العالم يحتاج إلى أساس نظري يعطيه شكلاً من أشكال الشرعية السياسية. فتوسع الإمبراطورية البريطانية في منطقة الخليج العربي جاء على خلفية محاربة تجارة الرق في هذا الجزء من العالم. ونفوذ الولايات المتحدة في أميركا الوسطى والجنوبية تزامن كذلك مع محاولة الإدارة الأميركية لوضع حدٍ لتجارة المخدرات في كولومبيا وغيرها من دول القارة.
وهكذا يمكن النظر إلى عملية تأسيس دستور جديد للعراق في إطار الشرعية المصطنعة التي تحاول خلقها القوة المحتلة للبلاد، ليس بغرض مغادرة ذلك القطر، ولكن بغرض إعطاء وجودها العسكري صبغة قانونية وإطاراً سياسياً شرعياً.
مثل ذلك حدث أيضاً في الماضي في الجزائر، حينما كانت الجمهورية الفرنسية الرابعة تتشبث بوجودها في الجزائر، باعتبار ذلك القطر جزءاً لا يتجزأ من الأرض الفرنسية.
والإشكالية الحاضرة ليست في وجود دستور دائم للعراق. فأي دولة مستقلة يحق لها أن تتبنى دستوراً يرسم العلاقات المختلفة بين سلطاتها ومؤسساتها. ولكن الإشكالية هي أن العراق لا زال تحت الاحتلال، وبالتالي فإن الوثيقة الدستورية التي سيتبناها ستكون انعكاساً لإرادة القوة المهيمنة عليه. كما أن كتابة أي دستور في العالم تحتاج إلى مناقشات عامة وجلسات استماع من قبل الهيئة الدستورية المكلفة بكتابة الدستور. وهذا يحتاج إلى وقت وزمن كافيين حتى يمكن لهيئة كتابة الدستور أن تتلمس احتياجات الناس وأن يشارك الشعب في صياغة هذا الدستور. وللأسف فإن هيئة صياغة الدستور الحالية، كما يقول (روبرت فيسك) في "الجارديان" لم تتمكن من مغادرة المنطقة الخضراء في وسط بغداد. وانصب معظم بنود الدستور للتعبير عن آراء وتصورات هذه النخبة، ومثل ذلك حدث مثلاً في البند الرابع من المادة الخامسة التي تنص على حق العراقيين في التمتع بازدواجية الجنسية. وهو ما يشير إلى أن عدداً كبيراً من النخب السياسية في الأحزاب الحاكمة ودبلوماسييها يتمتعون بجنسيات مزدوجة.
وقبل مناقشة مسودة بنود هذا الدستور (الذي نشر في مصدرين مختلفين) يجدر بنا التوقف عند ديباجة الدستور التي تمثل بياناً سياسياً يعبر عن المظالم التي تعرض لها الشعب العراقي خلال حكم صدام حسين. والمثير أن هذه الديباجة لا تنبس بحرف واحد عن الوضع السياسي والقانوني الذي يعاني منه العراق في الوقت الحاضر.
تنص مسودة الدستور في مادتها الأولى على أن النظام السياسي في العراق نظام فيدرالي جمهوري. كما تنص المادة الثانية على أن الإسلام هو مصدر أساسي للتشريع، ولا يجوز سن أي قانون يتعارض مع ثوابته وأحكامه. وتعترف المادة الرابعة بوجود لغتين رسميتين في العراق، العربية والكردية، كما تعترف باللغتين التركمانية والسريانية كلغتين رسميتين في المناطق التي تقطنها هاتان الفئتان.
وتمنع المادة التاسعة من الدستور قيام حزب البعث وتدين أفكاره وممارساته. وتنص المادتان الثانية عشرة والثالثة عشرة على الدور الأساسي للمرجعيات الدينية في العراق. والمادة المثيرة للاهتمام هي حقاً المادة السادسة عشرة التي تحظر إنشاء قواعد عسكرية أجنبية، أو السماح لقوات أجنبية باتخاذ العراق ممراً لها، إلا بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان. ويضمن الفصل الأول الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين العراقيين، ولكن مادته الخامسة تحظر إسقاط الجنسية عن أي مواطن عراقي ولد في العراق، ولكن البند الثالث من هذه المادة يسمح للحكومة العراقية بسحب الجنسية من أي مواطن حصل عليها بالتجنس. وهذا يعني أن آلاف المواطنين العرب من مصريين وفلسطينيين وغيرهم ممن حصلوا على الجنسية العراقية خلال فترة حكم صدام حسين مهددون فعلاً بسحب الجنسية العراقية منهم.
وفي إيماءة مهمة للعشائر، تنص المادة الثلاثون على حرص الدولة على "النهوض بالعشائر والإفادة من قيمها وأعرافها الإيجابية"، وفي ذلك اختلاف كبير عن عدد من الدساتير العربية التي لا تعترف بالقبائل أو العشائر وتحاول إدماجها في الحياة السياسية بحيث ينصهر الفرد في إطار الدولة الجديدة، بدلاً من الأطر العشائرية القديمة.
ويضع الدستور الجديد الهيئة التشريعية في مجلسين، أحدهما الجمعة الوطنية المكونة من أفراد يمثلون نائباً عن كل مئة ألف نسمة، وينتخب أعضاؤها لمدة أربعة أعوام. وتتمتع الجمعية الوطنية بحق حجب الثقة عن رئيس الوزراء، أو عن وزير بعينه، ويحق لها إقرار ميزانية الدولة وإقرار مناقلة البنود في الميزانية وزيادتها.
أما المجلس التشريعي الآخر فهو مجلس الاتحاد ويضم ممثلين منتخبين عن الأقاليم المختلفة حسب تعداد سكانها، وينظر هذا المجلس في القوانين ذا