يحاول محمد المريني، وهو مناضل ومنظر "يساري" مغربي، في كتابه "اليسار المغربي: الثورة والإصلاح"، أن يرسم برصانة مسار انتقال التيار الماركسي في المغرب من مرحلته الثورية الراديكالية وما ميزها من رفض عنيف لمؤسسات الحكم القائمة ولآلية التداول الانتخابي ونمط الاصطفاف الطبقي في حقبة ما بعد الاستقلال، إلى مرحلة أخرى شهدت قيام "اليسار الجديد" الذي اضطلع بمراجعات فكرية وسياسية طالت مفاهيم وتوجهات الحركة الماركسية المغربية وأطرها التنظيمية أيضاً.
وجاء الكتاب في ثلاثة فصول وخاتمة وملحق، غطت حيزا بلغ 217 صفحة من الحجم المتوسط، وانصب التحليل فيها على محطات أساسية في مسار "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي" والتي كانت امتداداً لحركة "23 مارس" قبل أن تنال اعترافاً رسمياً في مايو 1983.
يؤسس المؤلف لسؤاله الأساسي حول موضوع الانتقال الديمقراطي في المغرب بقوله: "كيف يمكن لنا أن نعد شباب (اليسار) لمعارك المستقبل إذا لم يتمكنوا من فهم خلفيات الصراع السياسي الذي استمر متواصلا طوال أربعين سنة بآلامه وتضحياته وشهدائه ومفقوديه، وإذا لم يوضعوا في صورة المحطات المعقدة والإكراهات البنيوية التي فرضت في مرحلة من كفاحنا تبني سياسة التوافق الوطني كمقاربة للتعامل والنضال من أجل انتزاع مكتسبات ديمقراطية، وإذا لم نتحل بقدر كبير من الشجاعة لممارسة النقد الذاتي لكشف الأخطاء التي اعترت مسيرتنا، والتخبطات والمتاهات التي ارتكبت عن نقص في النضج السياسي وعن انعدام الدراية، وإذا لم نقم بالمراجعة الضرورية والمسترسلة للرؤية التي اعتمدناها كمرجعية لممارستنا السياسية والتنظيمية؟". فما هي إذن شروط الانتقال نحو سياسة التوافق الوطني؟ وكيف تطور الوعي الديمقراطي لدى "اليسار" المغربي؟
كان النصف الثاني من السبعينيات نقطة انطلاق لانعطاف سياسي جديد في المغرب، أهم تجلياته ميلاد "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" عام 1975 تعبيرا عن الخيار الديمقراطي، واتجاه قسم مهم من "اليسار"، ممثلا في منظمة "23 مارس"، إلى العمل الشرعي والنضال السياسي العلني. وكان ذلك مؤشرا على تحول ملموس من طور الصدام الذي تأجج في الحقبة الأولى بعد الاستقلال، وتأسس في خضمه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (1959)، واندلعت انتفاضة 23 مارس 1965، في أجواء التجربة السوفييتية والصينية والفيتنامية. وفي هذا الصدد يوضح المؤلف أنه كما أفرزت سياسة الاستئصال شعورا لدى دوائر الحكم بضرورة "الحفاظ على حياة سياسية"، فقد بدأ "اليسار" يتخلى عن ازدواجية مرجعيته، فأعلن المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي في يناير 1976 شعار: "إن الديمقراطية وسيلة وغاية"، مما شكل قطيعة مع نهج العنف، ومع نهج "الانتظارية" ممثلا في "الاتحاد المغربي للشغل".
وإذا كان التحول في فكر "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي" بدأ بطيئا ومتدرجا، فهو حسب المؤلف، قد تبلور من خلال ثلاث محطات متميزة: أولاها كانت بمناسبة إجراء استفتاء داخلي في صيف سنة 1977 حيث تم التوصل بخصوص المسألة الديمقراطية إلى أن السلطة الشعبية يجب أن تعتمد في تنظيمها على المجالس الشعبية بعد تحطيم جهاز الدولة القديم وسائر المؤسسات "الرجعية"، مع الاعتراف بخطأ الموقف الداعي إلى مقاطعة الانتخابات! أما المحطة الثانية فكانت قرار الانتقال إلى العمل الشرعي في صيف عام 1980 تعبيرا عن تقدم فكر "الواقعية الثورية" وعن تطور أداء المنظمة في مفاصل أساسية وحاسمة من نموها. بينما كانت المحطة الثالثة هي الشروع في التأسيس القانوني والتنظيمي لولادة "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي" عام 1983.
أما المراجعة الفكرية في إطار "اليسار" الجديد، والتي أطرتها كتابات المفكرين عبدالله العروي وياسين الحافظ، فكان من شأنها إعادة الاعتبار لليبرالية كمضمون هو ذاته فلسفة الأنوار خلال القرن الثامن عشر والتي نوه بها ماركس، وكذلك إعادة تقييم الموقف من الديمقراطية الحديثة بوصفها ميثاقا اجتماعيا ضمنيا يضبط وسائل الاستمرار والتقدم والسعادة للجميع، ثم مراجعة الموقف من المجتمع العربي عامة كمجال لأزمنة ثقافية واجتماعية متفاوتة ومتعايشة في آن معا.
ويتساءل المؤلف: هل مازال المشروع المجتمعي الذي انطلق منه "اليسار" المغربي، ويتلخص في إنجاز الثورة الاشتراكية، صالحا اليوم بكل حذافيره؟ هنا نتابع انتقالا حادا في الخطاب جاء تحت إكراه التبدلات الجارية على الصعيدين العالمي والوطني المغربي؛ فبدل النضال ضد التبعية للنظام الإمبريالي، أصبح "اليساريون" المغاربة يطرحون آفاق الانخراط الإيجابي في التحولات العالمية الراهنة، وبدل تدعيم دور الدولة الاقتصادي أصبحوا ينادون بتجديد وظيفة الدولة وفق أنجع آليات السوق، وبدل جعل الاستقلال الاقتصادي هدفا أساسيا، أصبحوا يدعون إلى جلب الاستثمارات الخارجية وتقوية الشراكة الاقتصادية والتجارية مع البلدان الغربية أساسا!
ويقدم الكتاب، باسم "اليسار" المغربي، تصوراً جديداً ومعتدلاً للإسلام، قائلا "إننا مع وجهة النظر ال