تتشكل الهوية الوطنية للبلدان والشعوب من نسيج متشابك من الخيوط يضم في طياته مجموعة متنوعة من العوامل مثل العرق واللغة والدين والجغرافيا والثقافة والاقتصاد والتاريخ. غير أن المراقب الخارجي الذي يحاول توصيف الهوية الوطنية لبلد معين غالبا ما يسقط في مطب التبسيط، وهو ذات المطب الذي وقعت فيه الصحفية البريطانية مايكيلا رونج في كتابها الأخير عن أرتيريا الذي تحاول فيه أن تدرس كيفية تشكل هوية ذلك البلد الوطنية. والسبب أنها لم تركز في مسعاها ذاك سوى على عامل واحد يتمثل في التاريخ مغفلة العوامل الأخرى التي تعتبر ضرورية للإحاطة بفسيفساء ذلك البلد الصغير في شرق إفريقيا.
ولعل أهم ما يميز تاريخ أرتيريا من وجهة نظر الكاتبة، أو ما يشكل "روح التاريخ" المحرك للتطورات والأحداث على حد تعبير المفكر الألماني هيجل هي سلسلة الخيانات المتكررة عبر الأجيال المختلفة التي رزئ بها البلد طيلة مراحله التاريخية، وما نجم عن ذلك من معاناة مريرة من أجل التحرر وإثبات الهوية التي كانت دائماً ملحقة بهويات محلية أخرى. وقد نجحت الكاتبة في تصوير لحظات الخيانة والاستغلال التي تعرض لها البلد على امتداد السنوات والعقود الفائتة بدءاً من الحكم الإيطالي الذي استمر من 1870 إلى أواسط الحرب العالمية الثانية، حيث رزحت أرتيريا تحت نظام استعماري لا يرحم تميز بالكثير من الظلم والعنف تعرض الأرتيريون في ظله لكافة أنواع التنكيل وصل حد ضربهم بغاز الخردل من قبل القوات الإيطالية.
وبعد الحكم الإيطالي جاء الاستعمار البريطاني في 1941 حيث عمل البريطانيون على تهميش أرتيريا فقاموا بتفكيك منشآت البنية التحتية التي أقامتها من قبلهم إيطاليا لترسل إلى المستعمرات الإفريقية الأكثر أهمية في نظر البريطانيين كمصر وكينيا والسودان. واستمرت سلسلة المعاناة بعد أن تم وضع أرتيريا تحت الوصاية الأممية سنة 1952 حيث لم تنجح هذه الأخيرة في الوقوف أمام الأطماع الإثيوبية التي قامت بإلحاق البلد الصغير سنة 1962 واعتبرته جزءا لا يتجزأ من أراضيها، بالرغم من احتجاج الدبلوماسيين الإرتيريين لدى المحافل الدولية. وهكذا فقد غرقت أرتيريا مجددا في الاستبداد الإثيوبي وطواها النسيان بعد أن تجاهل العالم قضيتها. فكان أن راحت تلملم جراحها بمفردها وتنظم مقاومة مسلحة للانعتاق من السيطرة الإثيوبية. غير أن ذلك لم يكن سهلا حيث تكبد الشعب العديد من الضحايا وامتلأت السجون بالمعتقلين الإرتيريين. كما أن الظروف الإقليمية حينها لم تكن مناسبة لدعم قضية الشعب الأرتيري ومطالبه العادلة، خصوصا في ظل المساعدات المهمة التي كان يتلقاها النظام الإثيوبي من الولايات المتحدة وإسرائيل في البداية، ثم الدعم السوفييتي لاحقا عندما جاء نظام مانغيستو الماركسي إلى السلطة في 1976 وغير من ولائه لصالح المعسكر الشرقي. كل تلك الأحداث تندرج في إطار ما أطلقت عليه الكاتبة الخيانات المتعاقبة، فهي لم تقتصر فقط على القوى المحتلة، بل امتدت كذلك إلى تواطؤ القوى العالمية الأخرى التي التزمت الصمت تجاه ما يحدث لأرتيريا، ما دفع إثيوبيا للاستقواء والإمعان في فرض هيمنتها على جارها الأصغر.
غير أن ما يعاب على الطريقة التي تناولت بها الكاتبة قضية أرتيريا هو التركيز المبالغ فيه على الجانب التاريخي الذي أفاضت في تفاصيله مقابل إغفالها للعوامل السياسية الأخرى التي كانت تمور بها أرتيريا. علاوة على إغفالها للموقع الجغرافي المهم لأرتيريا الذي جعلها على مر التاريخ محل أطماع القوى الأجنبية بما في ذلك إثيوبيا التي لم تخف رغبتها في الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر. لكن الأهم من ذلك هو محاولة الكاتبة تبرير المشاكل الاقتصادية والاضطرابات السياسية التي مازالت تعيشها أرتيريا بما لحقها من ظلم في الماضي ملقية اللوم على القوى الاستعمارية السابقة دون الانتباه إلى تعقيدات الوضع الحالي داخل البلاد. وفي هذا السياق تقول الكاتبة "إذا كانت أرتيريا اليوم تنزعج من الانتقادات وتستاء منها، فلأن القوى الاستعمارية دفعتها إلى ذلك".
وخلال مطلع التسعينيات وتحديدا سنة 1991 نجحت أرتيريا أخيرا في طرد نظام مانغيستو الشيوعي من البلد بفضل المقاومة المسلحة التي استطاعت التغلب على قوات النظام بعدما كبدتها خسائر فادحة جعلتها تندحر إلى داخل الحدود الإثيوبية. ولم يكن ليتحقق ذلك النصر دون التضحيات الكبيرة التي بذلها الشعب الإرتيري طيلة سنوات كفاحه. وترى الكاتبة أن صعود قيادة جديدة في إثيوبيا متمثلة في ميليس زيناوي ساعد على انفراج التوتر في العلاقات بين الجارتين وساهم في تطبيع العلاقات بينهما، خصوصا وأنهما كشفا عن رغبة حقيقية للنهوض باقتصاد بلديهما وإخراج شعبيهما من دائرة التخلف والفقر. وهنا تسجل مايكيلا رونج الفرق بين رئيسي إثيوبيا وأرتيريا وهما على التوالي ميليس زيناوي وإسياس أفورقي وبين بعض الرؤساء الأفارقة مثل موبوتو أو موجابي. ففي الوقت الذي عرف هذان الأخيران بالفساد واستغلال السلطة، نأى الأولان بنفسيه