هناك فكرة واسعة الانتشار في جميع أنحاء العالم تُصور الولايات المتحدة على أنها المعقل العالمي للرأسمالية المتوحشة التي تتميز بتعصبها الشديد تجاه مبادئ السوق الحرة والملكية الفردية والاقتصاد غير الموجه. وعادة ما يردد النقاد الأوروبيون مقولة البابا يوحنا بولس الثاني عندما وصف النظام الأميركي بـ"الرأسمالية المتوحشة" مصوراً أميركا على أنها بلد يفتقد فيه العمال والمستهلكون أية حماية تقيهم من جشع الشركات ومصالحها المنفلتة من عقال الدولة. وغالبا ما يتم توظيف تلك الهجمات على النظام الأميركي لمساندة فكرة تدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد حتى لو لم يكن هناك مبرر لذلك. بيد أن ما هو غير مبرر فعلاً هو الجهل الناشئ عن انتشار صور غير دقيقة حول الاقتصاد الأميركي تساهم في ذيوعها مجموعة من النخب والمثقفين حول العالم.
وتبعاً لذلك يحق لنا أن نسأل: كم تصل درجة رأسمالية الرأسمالية الأميركية؟ هل تصل إلى 100% أم 90%؟ بالطبع تقوم الحكومات بصياغة اقتصادياتها بناء على السياسات "الماكرواقتصادية" المتصلة بقوانين العمل والتشريعات التجارية، فضلا عن العديد من التدابير الحكومية الأخرى. لكن الأهم من ذلك في صياغة الاقتصاد هو ما تنفقه عليه الحكومات من المال العام. ولعل ما سأقوله الآن سيفاجئ البعض ممن يراقبون أميركا بمن فيهم بعض الأميركيين أنفسهم. ففي اقتصاد يصل ناتجه المحلي الإجمالي إلى أكثر من 11 تريليون دولار في السنة، تنفق الوكالات الحكومية المختلفة، سواء على صعيد الولايات أو على الصعيد المحلي، 4 تريليونات دولار، أي ما يناهز ثلث الناتج الإجمالي موزعاً على جميع القطاعات. وعلى الرغم من أيديولوجية السوق الحرة التي تنتهجها الولايات المتحدة، فإن الحكومة الفيدرالية تنفق بمفردها في سنة واحدة أكثر من الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا. وبالتأكيد لا يمكن نعت أية مؤسسة حكومية تنفق سنويا 4 تريليونات دولار بالضعف، أو عدم القدرة على التدخل في الاقتصاد. وبناء عليه فإن ما تنفقه الحكومة الأميركية على الاقتصاد، حتى ولو لم يكن مخططا له، يؤثر بشكل كبير في توجيهه وتشكيل معالمه.
هذا ويختلف نمو المناطق في أميركا وفقا للسياسات الاقتصادية المتبعة، فضلا عما يشهده الاقتصاد من صعود صناعات جديدة، واندثار أخرى. وفي هذا السياق عادة ما تتم الإشارة إلى تكنولوجيا المعلومات في "سليكون فالي" وما حققته من نجاح باهر دون توجيه أو تدخل من الدولة. لكن ما لا يعرفه الناس أن تلك الصناعة لم تكن لتوجد دون البحث العلمي الممول من قبل الحكومة الذي بدأ منذ الخمسينيات وأدى إلى التقدم الكبير في مجالات الكمبيوتر وأنظمة المعلومات. وكان من الصعب على تكساس وفلوريدا أن تشهدا ذلك التوسع الكبير لولا مليارات الدولارات الحكومية التي خُصصت لتمويل برامج "ناسا" وصناعة الفضاء. علاوة على ما تنفقه وزارة الدفاع الأميركية على برامجها العلمية في كافة أرجاء الولايات المتحدة.
كما أن المقولة الرائجة بأن أميركا لا تنفق إلا القليل على الرعاية الاجتماعية بالمقارنة مع الدول الغربية ليس صحيحاً. فحسب ما جاء على لسان المعلق البريطاني تيموثي جارتون آش: "ينفق البرنامج الأميركي للرعاية الصحية على 40 مليونا من الفقراء الأميركيين المستفيدين من البرنامج أكثر مما تنفقه بريطانيا على مجمل سكانها البالغ عددهم 60 مليونا". هذا ولا يُشكل ذلك سوى جزء من الموازنة السنوية المخصصة للصحة، حيث يساهم البرنامج المذكور في إضافة 300 مليار دولار إلى الموازنة السنوية الكبرى المرصودة للرعاية الصحية من قبل الحكومة الفيدرالية. وتعتبر تلك الأمثلة وغيرها دليلاً دامغاً على مدى تأثير الحكومة الفيدرالية في الاقتصاد، وهو ما يفشل عادة المراقب الأجنبي في ملاحظته إزاء الخطاب الصادر عن واشنطن بضرورة عدم التدخل في الاقتصاد.
وبالإضافة إلى الإنفاق الحكومي الذي يعد دليلاً حقيقياً على التأثير الكبير الذي تمارسه الدولة على الاقتصاد، هناك التشريعات والقوانين التي تنظم مجال الأعمال والسلوك اليومي للأميركيين. ولعل أبرز مثال هو التقنين الذي طال الجبن السويسري، فقد قامت وزارة الزراعة بعد مناقشات مطولة بوضع قواعد تحدد حجم الثقوب التي تعلوا الجبن السويسري، حيث طلبت من منتجي الجبن أن يتوخوا حجماً موحداً للثقوب حدده القانون.
وفي 2002 ضم السجل الفيدرالي، وهو ديوان ضخم يحتوي على جميع القوانين الفيدرالية، أكثر من 75 ألف صفحة، علماً بأنه في اتساع مستمر حيث تضاف إليه كل سنة 4500 من اللوائح الجديدة. وبالطبع يقتصر السجل على القوانين الفيدرالية فقط، لأن لكل ولاية سجلها الخاص الذي يضم القوانين المحلية. فسجل القوانين في ولاية كاليفورنيا مثلا يضم 17 ألف صفحة تغطي مجالات واسعة تمتد من إمدادات المياه وعلاقات العمل إلى قوانين البناء والبيئة ومعايير التعليم. ويمكننا أن نجد السجلات نفسها على امتداد الولايات الأخرى. أضف إلى ذلك التشريعات في المدن والمقاطعات الصغيرة التي تتدخل في أدق الأمور كا