يحلو للعديد من المفكرين العرب أن يستندوا على كتف التاريخ، ليتغنّوا بالحركات الإصلاحية في بلدانهم. بعضهم تأخذه "وطنية" مُفرطة ليسرد أسماء بعض الإصلاحيين أو حتى المبدعين العرب الذين تلقفتهم أوروبا، أو هؤلاء الذين ساعدتهم الظروف في أن يبرزوا كمعارضين للاستعمار في بداية القرن التاسع عشر.
تماماً كما هي مناهج التعليم التي لا زالت تُذكّر الطلاب بالتاريخ والحضارة، في الوقت الذي لا يجد فيه الطالب ما يشتري به ساندويتشاً! أو بطاقة يعبئ بها هاتفه!
تماماً كما هي الجماجم التي روضتها الأنظمة العربية، بل "خدّرتها" بتناول أقراص الماضي أو "حُقن" التاريخ، وما فعله الأولون، حتى لا يفكر أبناء الجيل الحالي بحقيقة ما لا يفعله الآخرون. وهم الذين يحكمون بالحديد والنار، ويسيطرون على وسائل الإعلام والاقتصاد، ويُسيّرون الشعوب كيفما يحلو لهم. حيث تظل وسائل إعلامهم تتغنى بحضارات سادت ثم بادت. وتأتي لهم بنماذج من تماثيل وتراب.. في الوقت الذي ينخر فيه الفساد في الأنظمة، ويموت ملايين البشر تحت خط الفقر. فلا خُطط لتعيين الطلبة، ولا خُطط لتبديل المناهج البالية، ولا مبادرات لتنظيم عمليات الاقتراع، بل وقبول الأحزاب التي يمكن أن تأتي بجديد، حيث يعجز النظام عن تحقيق ولو 10% من أماني الشعوب وآمالها.
حشو العقول الفارغة كان هدف العديد من الحكومات السلطوية، التي تعيش على الفساد، بينما يتغنى إعلامها الموجّه بالحرية والديمقراطية ونجاح التجربة الاقتصادية.
حشو العقول الفارغة بالتاريخ، وأمجاد الماضي هو الوسيلة أيضاً لتبقى هذه العقول رهينة "شوفينية" تاريخية ماضوية، لا تفكر بالتجديد، ولا تحرك ساكناً في عملية الإصلاح، كونها اعتمدت -أو هكذا تعلّمت- على أن تقوم الدولة بالإصلاحات. ولو لم تقم الدولة بذلك، فلا بأس من عدم التفكير بالإصلاح، لأنه سيأتي ولو بعد حين!
حشو العقول الفارغة جعل بعض الشعوب التي لا تنام تنام، والشعوب التي احتفظ لها التاريخ بالحركة بأن تكف عن الحركة وتستكين. ذلك أن هذا الحشو جعلها تعتقد -كذباً- أن نظامها السياسي أفضل نظام، ونظامها الاقتصادي أفضل نظام، ونظامها الاجتماعي أفضل نظام.
هذا ما يسمعه المواطن عبر الشاشات وموجات الإذاعة، لكنه عندما يخرج إلى الشارع ليقضي مصلحة إدارية، نراه يموت بين الدوائر، ويتعب من كثرة الإحالات والتفسيرات، والطوابع، والرشاوى، وضياع الملفات، وغياب الموظف المسؤول. في الوقت الذي تتحدث فيه وسائل الإعلام عن براعة البلاد بالتكنولوجيا، ويقوم الحاكم بتفسير خطط توظيف التكنولوجيا المتطورة. لكنك عندما تكون في المستشفى لا تستبعد أن يتوقف جهاز ضبط ضربات القلب أو جهاز الأشعة. بل عندما تكون في الجامعة توقع أن يكون لكل مئة طالب جهاز ميكروسكوب، ولربما لكل عشرة آلاف جهاز تحديد نوعية الدم.
الإصلاح لن يتحقق عبر المايكروفونات أو الشاشات، أو الكذب على ذقون الشعوب المُخدّرة، الإصلاح يأتي عبر النيات السليمة وحسن توظيف العقول النيّرة. الإصلاح لا يأتي عبر "لعن" الولايات المتحدة وأنها السبب الرئيسي في تخلف العالم العربي، هذا المشجب الذي لا زالت بعض الأنظمة الموبوءة بسرطان التاريخ وعُقد الماضي ترفعه في وجه الشعوب كي تخفي وراءه الصورة القبيحة للنظام السلطوي الذي لا يريد للشعب أن يرفع رأسه بمطالبه الإصلاحية، ولا يريد لحزب مصلح أن يقول حان الوقت للتغيير في النظام، فليرحل الحرس القديم، ولنعالج أمورنا بهدوء دونما تشنجات أو دعاوى تمكن النظام من اتهام هذا أو ذاك بفقدان أهليته الوطنية، وبالتالي الزج به في السجن، لأنه قال كلمة الحقيقة، وخرج من الشرنقة التي ينسجها النظام حول الشعب.
الإصلاح الدستوري لن يتحقق إذا كان الحاكم يتمسك بالكرسي مدى الحياة، كما هو الحال في النظم "الديمقراطية" العربية. وقد نستثنى الأنظمة الوراثية من ذلك لظروف خاصة، وتراضي الشعوب والأنظمة على شكل الحكم، وحصول الشعوب على مكتسبات لن تحققها "النظم الديمقراطية" ولو بعد مائتي عام.
ولن يأتي الإصلاح الدستوري بعيداً عن الإصلاح الاقتصادي والتعليمي والاجتماعي، ونحن اليوم نكتشف، بعد ثلاثين أو أربعين عاماً، من وجود مؤسسات اجتماعية وأسرية في بعض البلدان العربية، أنها لم تحقق الحد الأدنى من التطور، كونها ارتبطت بزوجة الحاكم أو أخته في "الدول الديمقراطية" على العكس مما حصل في الدول الوراثية، حيث تسعى المؤسسات الاجتماعية إلى الأسر وتدرس أوضاعها وتيسر لها سبل العيش الكريم.
وعلى المستوى التعليمي، لنقارن مدارس الدول "الديمقراطية" وجامعاتها، كيف هو البناء، كيف هو التكييف، كيف هو نظام القبول، كيف هي التكنولوجيا، كيف هي المعامل، كيف هي الحمامات وقاعات الدراسة! لنقارن كل ذلك مع الدول التي تنشر دعايات الإصلاح عبر "الديمقراطية". وسائل إعلامها، هل يعيش طلابها فعلاً مناخات التدريس الصالحة، وهل يعيش المدرسون فعلاً تلك المناخات؟
لن نتحدث عن البنى التحتية، أو "هوامير" المال التي "تتخلق" في