حكمت محكمة أميركية في ولاية تكساس بداية هذا الأسبوع، على إحدى عمالقة شركات صناعة الدواء في العالم، بدفع تعويضات بقيمة 253 مليون دولار (929 مليون درهم)، لأرملة رجل توفي من جراء أزمة قلبية، بسبب تعاطيه لعقار تنتجه الشركة المعنية. هذا الحكم يؤمن الكثيرون، بأنه سيشكل نقطة تحول تاريخية في مسيرة صناعة الدواء العالمية، بسبب ما سينتج عنه من تغيرات في استراتيجيات تلك الشركات في التعامل مع اكتشافات العقاقير الحديثة، وفي التعاطي مع نتائج الدراسات والأبحاث العلمية. وقبل أن نستطرد إلى تبعات هذا الحكم التاريخي، وآثاره المستقبلية على الشركات ومستثمريها، وعلى المرضى والممارسات الطبية اليومية، يجب أن نسترجع أولا بعض الحقائق الأساسية. فقصة الدواء المعني، وهو عقار "الفيوكس" (Vioxx) الذي تنتجه شركة "ميرك" (Merck)، بدأت حلقاتها في نهاية شهر سبتمبر الماضي، عندما أعلنت "ميرك" فجأة، قرارها بسحب العقار من جميع أسواق العالم. هذا القرار تم تنفيذه على الفور، رغم أن العقار كان يستخدمه أكثر من عشرين مليون مريض حول العالم. ويعتبر "الفيوكس" من طائفة (العقاقير الذهبية)، حيث بلغت مبيعاته في عام 2003 فقط أكثر من أربعة مليارات ونصف مليار دولار، وحققت الشركة من ورائه أرباحا بالمليارات، خلال خمس سنوات فقط. ولكن جاء قرار سحبه من الأسواق، بناء على معلومات تلقتها الشركة من هيئة الأغذية والعقاقير الأميركية، عن تواتر نتائج دراسات حديثة، تظهر أن العقار يتسبب في زيادة احتمالات الإصابة بالذبحة الصدرية بين مستخدميه. وعند تحليل علماء الهيئة لنسبة الخطر، وبالأخذ في الاعتبار لعدد المستخدمين، توصلوا إلى أن العقار قد تسبب في إصابة ما بين 88 إلى 139 ألف شخص بالذبحة الصدرية، توفي ثلاثون أو أربعون في المئة منهم. وهو ما يعني أن "الفيوكس" في الخمس سنوات التي مرت بين طرحه في الأسواق وسحبه منها، قد تسبب في وفاة قرابة الأربعين ألف شخص.
وزاد الموقف سوءاً للشركة، عندما قامت الدورية العلمية المرموقة "لانست" بنشر تحليل شامل (meta-analysis)، لجميع الدراسات التي أجريت سابقا على مدى سلامة ودرجة أمان استخدام "الفيوكس". وتوصل العلماء من تحليلهم إلى أنه في ضوء العلاقة المعروفة سابقا بين "الفيوكس" وبين الذبحة الصدرية، كان يجب سحب هذا الدواء من الأسواق، ومنذ عدة أعوام مضت. هذه الحقيقة بالتحديد، هي التي وضعت "ميرك" في مأزق قانوني. فمشاكل الشركة القانونية والمالية الحالية، ليست ناتجة عن وجود أعراض جانبية للعقار، بل عن تجاهلها لتلك الأعراض، وربما أيضا محاولة التقليل من شأنها. هذه الشكوك في سوء النية، هي التي دفعت محرري "لانست" إلى شجب كل من تصرفات "ميرك" وإجراءات الرقابة في هيئة الأغذية والعقاقير، واتهامهم بالمسؤولية عن جميع الوفيات التي حدثت. وهو الموقف الذي عاد ليؤكده، المحلفون في تكساس في بداية هذا الأسبوع، في شكل تعويض خرافي القيمة.
ولكن مما لا شك فيه أن هذه النظرة تتسم بالبساطة الشديدة، تجاه نوع من الأعمال ذي ديناميكيات شديدة التعقيد. فقليلة هي التحديات العلمية التي يمكنها أن تضاهي أو تزيد في صعوبتها، عن صعوبة التنبؤ بالمشاكل الصحية التي (ربما تنتج) جراء تعاطي دواء معين، على المدى القصير والبعيد. فمثلا ليس في مقدور العلماء أن يحقنوا الناس بالمواد الكيميائية، ثم الانتظار ليروا ما إذا كانت ستسبب أعراضا جانبية، أم لا. ولذا يعتمد الباحثون على حيوانات المعامل لإجراء الاختبارات، وعلى نتائج الإحصائيات البيئية للأشخاص الذين تعرضوا لنفس المادة في ظروف طبيعية. ولكن، كما نعلم جميعا، تختلف الحيوانات في استجاباتها الفسيولوجية عن استجابة بني البشر. أما البيانات الإحصائية عن نتائج التعرض السابق، فالمعروف أيضا أن الكثير من العقاقير الكيميائية الحديثة، لا يوجد تاريخ مسبق لتعرض البشر لها، وهو ما يجعل هذين الأسلوبين عاجزين عن بيان التأثير الحقيقي للمادة المزمع استخدامها. هذا الوضع يترك العلماء في وضع لا يحسدون عليه، يعتمدون فيه إلى حد كبير على التقدير الاستقرائي، كي يتمكنوا من استنتاج التأثيرات محتملة الوقوع بشكل غير مباشر. وبما أن التأكد المطلق، هو رفاهية نادرا ما تتوفر للعلماء في معاملهم، تصبح برامج التنظيم والمراقبة ضرورة حتمية، لمتابعة التأثيرات في المعامل، وبعد الطرح في الأسواق.
وكما أن البحث عن الحقيقة هي صفة أساسية في العلم، فإن فقدان اليقين هو أيضا صفة أساسية في مجال اكتشاف الأدوية. ولكن تكمن المشكلة عندما ينقلب الوضع على رأسه، لتتم زراعة الريبة في الصورة الواضحة الدالة على عدم سلامة أو أمن العقار. وما نعنيه بذلك، هو الحالة التي تشير فيها الأدلة والنتائج العلمية إلى خطر الدواء، بشكل لا يدع مجالا للشك. ولكن تتدخل الشركات لتزرع الشك في هذه النتائج، كي يتحول اليقين إلى (شك مقبول). ففي العقود الثلاثة الماضية، عملت الشركات الكبرى على التدخل السافر في نتائج الأبحاث العلمية، على صعيد صناعة الدواء أو غير