بينا في مقالين سابقين أن التكنولوجيا أصبحت ديناً جديداً في الغرب الصناعي بعد أن فقد الإنسان هناك ثقته في الأديان السماوية والأيديولوجيات البشرية والمؤسسات السياسية. وتساءلنا إن كان بإمكاننا، نحن العرب، أن نتجنب الدخول في هذه الأزمة الجديدة للحضارة الغربية. هناك ثلاثة جوانب تتعلق بهذه المسألة:
أولاً: إن التخلي عن الدين الإسلامي، الدين السماوي الذي تؤمن به الغالبية الساحقة من العرب، سيعني قطيعة مع الإرث الديني والفكري والتاريخي والثقافي الذي نظم حياة الأمة وحركتها عبر أكثر من خمسة عشر قرناً من الزمن. فعندما حققت أوروبا قطيعتها مع الكنيسة كان لديها إرث آخر تمثل في الإرث اليوناني والروماني الذي اعتبرته نقطة انطلاق لنهضتها العلمانية الجديدة. فما هو التراث الآخر الذي سينطلق منه العرب فيما لو فعلوا الأمر نفسه؟ هذا إضافة إلى عدم وجود مؤسسة كنسية في الإسلام ولا يوجد عداء مع العلم والعقلانية أو تنافس مع مسؤوليات الدولة.
ثانياً: إن الحياة السياسية في المجتمعات الغربية قد أصبحت مستقرة على أسس ثابتة ديمقراطية. وحتى لو كفر أهل تلك المجتمعات بالأيديولوجيات والممارسات السياسية، فإن ذلك سيكون مؤقتاً على الأرجح، ولن يؤدي إلى تدمير الأسس الديمقراطية التي ترسخت عبر الممارسات الطويلة والتضحيات الجسيمة. أما نحن العرب فإننا نعاني من حكم فردي أو عسكري أو قبلي أو مذهبي استبدادي يحتكر السلطة والثروة والجاه لأقلية صغيرة، وهو حكم فشل في تأمين التنمية الاقتصادية والأمن الاجتماعي والتقدم الحضاري. وعليه فإن التخلي عن الأيديولوجيات والمؤسسات والممارسات السياسية سيكون كارثة تبقي على أوضاع طال أمد بقائها وأصبح تغييرها أمراً لا غني عنه لإنقاذ هذه الأمة. وهذا ينطبق على الأخص على هذه المرحلة من حياة الأمة التي تسعى للانتقال إلى حياة ديمقراطية معقولة من خلال كفاح سياسي مرير يحتاج إلى طاقات كل أفراد المجتمع.
ثالثاً: تستطيع المجتمعات الغربية الانتقال إلى دين جديد هو من نتاج فكرها وعلمها وجهدها وتصنيعها. أما نحن العرب الذين نعيش على هوامش العلم والتكنولوجيا، فإن الأمر يختلف عندنا. إن تبني هذا التوجه الجديد سيعني اعتماداً كلياً على ما قرره غيرنا لنا وعلى ما يسمح به الغير من استجابة لحاجاتنا.
على ضوء النقاط الثلاث السابقة، ما الذي يعنينا من توجه الحضارة الجديد وما الذي يخيفنا؟ الذي يخيفنا هو التقليد الذي تعودناه عبر السنين بدلاً من عادة التفاعل المبدع الخلاق مع كل جديد. دعنا نأخذ كمثل على الاعتماد الشديد على الحل التكنولوجي موضوع الماء في منطقة الخليج. إن دول مجلس التعاون دول جافة صحراوية والمياه الجوفية فيها شحيحة، ومع ذلك فإن نشاطاتها العمرانية والاقتصادية لا تأخذ ذلك بعين الاعتبار اعتماداً على وجود تكنولوجيا تحلية المياه، فالسياحة، التي من المعروف أنها تستهلك مياهاً كثيرة، أصبحت أولوية في كل دول المجلس. المطابخ والحمامات في البناء لا تأخذ بعين الاعتبار شح المياه. وفي بعض دول الخليج جُربت زراعات مستهلكة للمياه بشكل كبير، وهناك خطط في بعض الدول لاجتذاب أعداد كبيرة من الأجانب للسكن فيها كل ذلك يجري لأننا نعتقد أن مزيداً من مشاريع تحلية المياه ممكنه التحقق. وننسى أن لذلك ثمناً سندفعه، ذلك أن الخليج، وهو بحر شبه مُغلق، سينقلب شيئاً فشيئاً إلى بحر ميت بسبب التوسع الهائل في تحلية المياه. وهكذا، بدلاً من التركيز على بناء عمراني واقتصاد وصناعة وزراعة ونمط معيشة لا تحتاج لمياه كثيرة نتوجه إلى الحل السهل الحل التكنولوجي البحت.
إن لب الموضوع يكمن في نمط التفكير لحل المشاكل الإنسانية. في الماضي كتب الفيلسوف سارتر عن إعادة اكتشاف الإنسان عن طريق النتاج الفكري، وكان لينين يتفاخر بأنه سيخلق روحاً جديدة عن طريق الأيديولوجيا الاشتراكية، أما اليوم فإن الحديث هو خلق إنسان جديد عن طريق التلاعب بالخلايا البشرية، أي عن طريق التكنولوجيا.
نحن العرب، نحتاج إلى غض النظر كثيراً في هذا الموضوع.