لم تعد عملية صياغة استراتيجية للأمن القومي في بلد ما مسؤولية النخب السياسية الحاكمة فقط من خلال أجهزتها المتخصصة، بل أصبحت مهمة كبرى تقع مسؤولية تنفيذها على الشعوب ذاتها.
وحين نتحدث عن الشعوب فنحن لا نتكلم على سبيل التجريد، ولكن نقصد الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والجامعات والباحثين والمفكرين. لقد انتهى العهد الذي كان ينفرد فيه حاكم مفرد ملكاً كان أم رئيس جمهورية باتخاذ قرارات الحرب والسلام. كما ولى زمان الحزب الواحد المهيمن الذي يزعم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ويصدر من القرارات التعسفية أو العشوائية ما يمس حياة ملايين البشر. ومما لاشك فيه أن السقوط المدوّي للاتحاد السوفيتي السابق، والذي كان بذاته رمزاً للشمولية في أعتى صورها، كان حكماً نهائياً غير قابل للنقض فيما يتعلق باندثار الشمولية كنظام سياسي، كانت تحتكر فيه نخبة حاكمة فاسدة إدارة شؤون البلاد. كما أن السلطوية السائدة اليوم في عدد من بلاد العالم الثالث تحارب آخر معاركها اليائسة، بعد ارتفاع مدّ موجات الديمقراطية في كل مكان.
وتشاء الظروف أن يبدأ القرن العشرون رحلته في الزمان ببروز ظاهرة العولمة، والتي هي في تكييفها الصحيح عملية تاريخية متطورة تحمل في ثناياها تراكمات متعددة سياسية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية وثقافية، هي في الواقع حصاد خبرات الشعوب في القرون الماضية، وخاصة في القرن العشرين، والذي كان معملا تاريخياً رحيباً، اختبرت فيه صحة عديد من الإيديولوجيات والنظريات. وسقطت في ميدان الممارسة العملية النازية والفاشية والشيوعية الجامدة، وحتى الرأسمالية المتوحشة، التي ظنت أنها يمكن أن تنمو بلا حدود، من خلال الاستئثار بالفائض الاقتصادي الذي هو نتاج جهد الشعوب، لكي تنفرد به أقليات محدودة من البشر، تمثل فئات شتى من الرأسماليين العتاة والمديرين للشركات دولية النشاط، والنخب السياسية المنحرفة.
وليس هناك داع للإفاضة في موضوع ضرورة التحول الديمقراطي في العالم، بعد أن أصبح ذلك مطلبا جماهيريا ترفعه كافة الشعوب، بالإضافة إلى أنه أضحى شعاراً أساسياً ترفعه مؤسسات المجتمع المدني العالمي، والتي هي بذاتها إحدى نواتج العولمة البارزة، بحكم ضغوطها على الحكومات في مختلف أنحاء العالم، لتدفع بها في اتجاه الأمن الإنساني، بدلا من تركيزها المسرف على أمنها القومي بالمعنى التقليدي لذلك، والذي يتمثل في حصر ومواجهة أسباب التهديد، من خلال امتلاك الأسلحة الحديثة القادرة على ردع الخصوم.
ونعرف أن للديمقراطية كمذهب سياسي إشكاليات متعددة، لعل أهمها قاطبة عدم وجود نظرية صورية واحدة محكمة لها، يمكن تطبيقها في كل مكان. ولكن هناك – على سبيل القطع – مثال أعلى ديمقراطي يمثل بمفرداته القواسم المشتركة لأي نظام ديمقراطي، وهي إجراء انتخابات دورية نزيهة لكافة المستويات من أول رئاسة الجمهورية (في النظم الجمهورية) حتى الانتخابات التشريعية والمحلية، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتداول السلطة، وحرية التنظيم والتفكير والتعبير. هذه هي أبرز مفردات الديمقراطية التي سعت شعوب شتى من قبل وفي الوقت الراهن لتطبيقها، وخاضت في سبيلها معارك دامية ضد السلطات المستبدة في الغرب والشرق على السواء.
صحيح أن دولاً ديمقراطية سبق لها في التاريخ أن شنت حروباً غير عادلة بتأثير الإدراكات الخاطئة أو المنحرفة لنخب سياسية حاكمة، ولكن لا ينبغي أن يعد ذلك حجة ضد الديمقراطية. ذلك لأن آلية التصحيح الذاتي في الديمقراطية وخصوصاً في مجال إسقاط الحكومات عبر الانتخابات التشريعية، بالإضافة إلى ممارسة النقد العلني للسياسات الخاطئة الذي يمارسه المثقفون والصحافة ومؤسسات المجتمع المدني، يمكن أن يسهم في تصحيح المسار. ولعل النقد العنيف الذي وجه إلى الإدارات الأميركية المسؤولة عن شن حرب فيتنام دليل على قدرة الرأي العام على ردع الحكومات المستبدة.
أما حقوق الإنسان وأهمية احترام مواثيقها الدولية فقد أصبحت من شعارات العصر الأساسية، بل وأصبحت أحد المعايير المهمة في الحكم على شرعية النظم السياسية المعاصرة.
وليس هناك شك في أن تأسيس منظمة التجارة العالمية أصبح رمزاً على العولمة الاقتصادية. والعولمة بشكل عام، لو أردنا أن نصوغ لها تعريفاً إجرائياً لقلنا إنها "سرعة تدفق السلع والخدمات والأفكار والبشر بغير حدود أو قيود". ونحن نعلم أن هذا التعريف الإجرائي والذي يحمل في طياته مثاليات التدفق غير المحدود تحوطه في الممارسة عقبات شتى، تتمثل في القيود التي تضعها حكومات متعددة في الدول الصناعية المتقدمة كما هو الحال في الدول النامية، غير أن الجزاءات القانونية التي تنص عليها معاهدة منظمة التجارة العالمية للتطبيق على المخالفين تحاول تطبيق المبادئ بغير مخالفات صارخة.
وهناك صراع يدور داخل أروقة منظمة التجارة العالمية بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية للتخفيف من حدة الإجحاف بمصالحها، والجدل ما ز