"منظومة معقدة ومتكيّفة"، هذا هو العراق، في رأي المهندس سمير ريحاني، عالم الاقتصاد والتخطيط في "كلية العلوم السياسية والاتصالات" في "جامعة ليفربول" ببريطانيا. صفة التعقيد complex مستقاة من علوم الفيزياء، وتعني أن العراق يتكون من عدد كبير من عناصر داخلية متنوعة تتفاعل فيما بينها بشكل عشوائي على المستوى المحلي، فيما تعني صفة التكيّف adaptive المُستقاة من علوم البيولوجيا أن العراق تطور على مديات بعيدة، وعبر ممرات متنوعة لا يمكن تحديدها مسبقاً، أو التحكم بها. والمنظومة system على العكس تماماً من الآلة، أو الماكينة. ففي الآلة يتوقف تركيب المنتوج بشكل حاسم على عمليات أجزاء الآلة المحدّدة بدقة مسبقاً، في حين يحدد الهيكل الكلي للمنظومة عمل الأجزاء.
وينبه سمير ريحاني، المولود في بغداد إلى أن مصطلح "التعقيد" لا يعني الصعوبة، أو "المعقد" بالمعنى الدارج للكلمة. ولا جدوى للحديث عن "تعقيد" العراق، طالما من الواضح والمعروف أن العراق معقد. لكن "منظومة العراق المعقدة المتكيّفة" تخضع لقوانين "اللاخطية"، أو "اللاإستقامة" non-linear. ويعني المصطلح المستقى من الهندسة الكهربائية والعلوم الإلكترونية "عدم تناسب القوة الكهربائية المستخدمة مع التيار الكهربائي المتدفق"، أو حسب التعبير الشائع في علوم الكومبيوتر "عدم تناسب المخرجات مع المدخلات". يعني هذا أن "العراق يسلك سلوك منظومات متداخلة معقدة تزداد تعقيداً مع الوقت، إلى حدٍ لا يمكن معه جعلها أبسط، وغير ممكن أيضاً العودة بها إلى حالة الماضي المحددة المرغوبة". ويستحيل هنا التنبؤ بالهدف النهائي، بل باتجاه السير، أو كما يقال في "فيزياء الكم": "ليس معرفة ماذا، أو عن ماذا، بل معرفة كيف".
والعراق نموذج لما يسميه عالم "فيزياء الكم" وارنر هايزنبرغ بأنه "نسيج معقد من الأحداث، حيث تتناوب، أو تتقاطع، أو تتراكب علاقات مختلفة النوع لتحدد المنسوج الكلي". و"فيزياء الكم" مرجع أساسي لنظرية "التعقيد"، التي يرى بعض علماء الاقتصاد أن سمير ريحاني يطرح بها "منظوراً" paradigm جديداً في اقتصاد التنمية. وتعتمد نظرية "التعقيد" على قواعد أتت بها "فيزياء الكم"، كـ"اللايقين"، و"الاحتمالية"، و"الفوضى"، أو "العشوائية". تضاد هذه القواعد مبادئ "الحتمية" و"اليقين" في الفيزياء التقليدية، أو ما تُسمى "فيزياء نيوتن"، التي تعتقد بتلازم النتائج والأسباب، وبأن لكل فعل رد فعل، يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه. تختلف عن ذلك "المنظومة المعقدة المتكيّفة"، حيث قد تُحدث تغيرات طفيفة تطورات كبرى، وبالعكس لا شيء ينجم عن أحداث كبرى. ويقارن ريحاني هذا بسلوك الماء في حوض مغلق، حيث يكون الماء في حالة استقرار، وعند فتح ماسورة المياه ومجرى التصريف يصبح الماء في حالة فوضى يستحيل تحديدها. لكن عند التحكم بوتيرة تدفق الماء من الماسورة ينظم الماء نفسه ذاتياً، كنظام معقد على شكل دوّامات مثلاً. هنا تقترن الفوضى والنظام ليكوّنا حالة "تعقيد منظمة" تستمر طالما يستمر الماء بالتدفق المنتظم.
وفي مقالة عن العراق منشورة قبل أيام من حرب عام 2003 ذكر ريحاني أن العراق تطوّر عبر عمليات استغرقت مراحل زمنية طويلة، لا بداية لها ولا نهاية. وتوقع أن تكون الأحداث، التي تمر على العراق مهمة، لكنها ليست بالغة الأهمية. فالماضي يلقي بظلاله الطويلة على الحاضر. ويواجه العراق كل فترة محملاً بظروف متراكمة، ويمر بتفاعلات بين عدد هائل من أحداث ومؤثرات داخلية وخارجية، يمتد تاريخها إلى عقود وقرون طويلة. ويستخدم ريحاني نظرية "اللعب" لوصف الوضع الحركي للعراق، الذي يقارنه بلعبة الشطرنج، حيث ينتشر على رقعة الشطرنج عدد محدد من قطع لا يمكن تحريكها، إلاّ وفق عدد قليل من قواعد بسيطة. مع ذلك يستحيل التنبؤ بمجرى اللعب من ملاحظة الحركات الأولية. كل حركة مهمة، إلاّ أنها ليست بالغة الأهمية في تحديد النتيجة النهائية. ويتحدد الوضع على رقعة الشطرنج في كل مرحلة بجميع "النقلات"، التي اتخذت سابقاً. ويلاحظ أن تعقيد وضع العراق أشدّ بما لا حد له من لعبة شطرنج.
فمنظومة العراق تتكون من ملايين العراقيين، الذين يتصرفون كأنظمة "لاخطية" ينبثق عن تفاعلاتها الداخلية العشوائية نظام كلي ذاتي التنظيم. ما بين حدّي النظام والفوضى يمضي التعقيد ذاتي التنظيم، "في رحلة استكشافية حاشدة لا نهاية لها عبر مساحات كالحة، حيث لا وعود ولا طرقاً مختصرة، أو مباشرة". ويسخر ريحاني في مقالته من اعتداد الزعيمين البريطاني والأميركي وثقتهما بنتيجة الحرب. ويذكر أن "التفاؤل والتشاؤم ليسا مناسبين في الحديث عن العراق... فالأحداث قد تبدو بالغة الأهمية، لكن يجدر وضعها في سياق ما. إنها ليست نهاية القصة". واعتداد ريحاني بالعراق يقوم على أساس "علم التعقيد". فالمنظومة ذاتية التنظيم تستند إلى عناصر داخلية قابلة للتفاعل على مستوى ملائم من التوصيلية connectivity، ووفق قواعد محلية مناسبة. وتبدي المنظومة مع الزمن قدرة على الاستنباط عبر تعديلات ص