يا لها من صفقة رابحة تلك التي يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون إليها، فهو يتخلص من أعباء قطاع غزة والكلفة المرتفعة لاحتلاله، آملاً في أن يساعده الانسحاب وإجلاء المستوطنين منه في الاحتفاظ بنحو ثلث مساحة الضفة الغربية أو 20 في المئة منها على الأقل.
يقدم شارون وآلته الدعائية الانسحاب من غزة باعتباره تنازلاً مؤلماً شديد القسوة، وتتواطأ معه في ذلك ثورة الاتصالات. فالبث المباشر لوقائع إجلاء المستوطنين، وما تنطوي عليه من "آلام"، استدر عطف مشاهدين لا يعرفون تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وحاضره أو يعرفون أقل القليل. فكثير ممن شاهدوا وقائع الانسحاب وإجلاء المستوطنين، على الهواء عبر الأقمار الاصطناعية، لا يعرفون مقدار الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني. وكيف لأجيال جديدة في مغارب الأرض ومشارقها أن يعرفوا فيما نحن، فلسطين وأمتها، نخاطب أنفسنا مشغولين بمهاجمة بعضنا بعضا؟ ومن أين تتأتى لهم معرفة كافية بالمظالم الهائلة التي تعرض لها الفلسطينيون، وما زالوا، إذا كان قادة فصائل المقاومة يتبارون في إعلان وتأكيد قدرتهم على تكبيد العدو الصهيوني أفدح الخسائر، ويتنافسون في تهديده بالويل والثبور وعظائم الأمور؟ فهل نلوم شباناً وشابات في كندا مثلاً أو اليابان إذا حرك مشاعرهم مشهد امرأة مستوطنة حرقت نفسها عندما أرغمت على مغادرة أرض لا يعرفون موقعها في صراع لم نكلف نحن أنفسنا بتعريف العالم به، وخصوصاً الأجيال الجديدة التي تشكل الكتل الحية في الرأي العام هنا وهناك؟
ولذلك فطبيعي ما نقلته وسائل إعلام عدة عن أن بعضهم هاله ما حدث لمستوطنين تشبثوا بأرض لم يعنَ بها حتى رواد الصهيونية. بعض هؤلاء الذين يتعاطفون مع مستوطن بسبب إجلائه قسراً، لم تستوقفهم وحشية منظمة مارسها جنود إسرائيليون ضد الشعب الفلسطيني، لأننا لم نبذل أدنى جهد في تعريفهم بها بالرغم من سهولة نقل المعرفة في عصر ثورة المعلومات.
لم يصل إلى علمهم مثلاً ما سجله جندي استيقظ ضميره، فألّف كتاباً قبل عامين اختار له عنواناً "وباء الحاجز"، روى فيه قصصاً يندى لها الجبين عن تجربته في التنكيل بالفلسطينيين. ترى أي أثر كان يمكن أن يتركه كلام هذا الجندي صاحب الضمير الحي في بعض من أثار إجلاء المستوطنين آلامهم.. ومن أهم ما قاله هذا الجندي، ويدعى ليران رون فورر، رسالة وجهها إلى قادته، وجاء فيها: "أيها العبيد الصغار أنا حُر الآن من طاقة الجنون التي أدخلتموها في رأسي. لقد قذفتم بي إلى غزة الكريهة وأجريتم لي غسيل دماغ وجعلتم مني خرقة يا أولاد...".
لا يعرف كثير من الناس في مغارب الأرض ومشارقها ممن تعاطفوا مع المستوطنين، ومع الجنود الذين أرغموهم على مغادرة المستوطنات، شيئاً من ذلك. لم يصل إلى علمهم أن قطاع غزة هذا لا يمثل أكثر من 6 في المئة من الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967، والتي لا تتجاوز مساحتها نحو 22 في المئة من فلسطين التاريخية. وربما إذا عرفوا اقتنعوا بأنه لا يجوز عقلاً ومنطقاً أن يقتطع الإسرائيليون ما بين ثلث وربع هذه المساحة الصغيرة، التي باتت أحلام الفلسطينيين مقصورة عليها لإقامة دولة مستقلة لهم فيها. وربما إذا عرفوا وافقوا معنا على أنه لا يصح بأي معيار إنساني، وبمنأى عن أي اعتبار سياسي، أن يُحشر نحو 1.4 مليون فلسطيني حشراً في نحو 70 في المئة من مساحة غزة الصغيرة (نحو 450 كلمتراً مربعاً)، فيما ينعم 7662 مستوطناً إسرائيلياً بالمساحة الباقية في 2251 فيلا ومسكناً فسيحاً تحيطها حدائق غناء، مع ملاحظة أن ما يقرب من نصفهم استخدمها للاستجمام في العطلات فقط.
ولا لوم على من لا يعرف ما دام أصحاب المصلحة في تعريفه تخلوا عن مسؤوليتهم وقصروا في أداء واجبهم، فيما تبارى بعضهم في تقديم معرفة كاذبة شائهة إلى من يريد أن يعرف. قصرنا في تعريف العالم، وأجياله الجديدة، بحقيقة الفلسطيني المظلوم صاحب الحق وقضيته الأكثر عدلاً في هذا العصر، في الوقت الذي قدم بعضنا صورة زائفة لفلسطيني إرهابي لا همّ له إلا ارتداء حزام ناسف أو حمل حقيبة متفجرات وتحويل جسده إلى قنبلة يفجرها في "باص" أو مطعم أو أي موقع يستطيع الوصول إليه.
فلا نلومن، إذاً، إلا أنفسنا عندما يعمل شارون الآن لاستغلال أصداء الانسحاب من غزة سعياً إلى مقايضة منطقة كلفت إسرائيل غالياً بأخرى يكلف احتلالها الفلسطينيين ما هو أغلى بكثير. فالأجزاء التي يتطلع إلى ضمها في الضفة الغربية، وهي القدس والكتل الاستيطانية الكبرى ووادي الأردن، تجعل الدولة الفلسطينية بعيدة المنال وربما مستحيلة في الواقع.
وحتى إذا "تنازل" شارون عن المنطقة التي يطمح إلى ضمها في وادي الأردن بمحاذاة القطاع الطولي الضيق على طول النهر، ستفقد المناطق التي يقبل الانسحاب منها التواصل فيما بينها في حال ضم القدس والكتل الاستيطانية الست الكبرى إلى إسرائيل، فمواقع هذه الكتل تجعل التواصل الجغرافي لباقي مناطق الضفة مستحيلاً على الأرض. توجد هذه المواقع في شرق القدس على مساحة تعادل تقريباً م