لم يحدث قط أن استأثرت احتفالات الفاتح في ليبيا باهتمامي. لكن هذه المرة استبق نجل العقيد الليبي، سيف الإسلام، احتفالات هذا العام بتصريحات لافتة، وتستحق شيئا من الاهتمام. هي لافتة لأنها بدت وكأنها انقلاب على الفاتح، وتستحق الاهتمام لأنها قالت أشياء غير معهودة، لكنها قيلت بشكل ينقصه الوضوح والمباشرة. مما قاله ضرورة إعادة النظر في أوضاع سجناء الإخوان، ومحاكمتهم وفق المستجدات الجديدة في البلاد (لم يفصل). وأضاف أنه قد تكون هناك ظروف أجبرتهم في الماضي على العمل تحت الأرض، وهي ظروف لم تعد موجودة اليوم. ما هي هذه الظروف؟ وما الذي تغير فيها؟ ولماذا المحاكمة في هذه الحالة؟ والأهم دعوة سيف الإسلام إلى فتح ملفات الإعدامات والتصفيات التي تمت ضد ليبيين في الماضي وفق أحكام صادرة عن محاكم غير شرعية، مثل المحاكم الثورية، ومحكمة الشعب. وطالب بتضميد جراح أهل الضحايا، وتعويض ذويهم ماديا ومعنويا، تحقيقا لمصالحة اجتماعية (لكن ليس سياسية). التعويض مهم. والأهم معرفة المسؤول عن تلك الإعدامات والتصفيات.
توقيت تصريحات سيف الإسلام يخفي سياقا زمنيا متصلا من الأحداث والمنعطفات. وعند التدقيق في هذا السياق نجد أن محطاته وأحداثه منسجمة، يؤدي بعضها للبعض الآخر بسلاسة وسهولة. لم يكن مستغربا أن ينتهي هذا السياق بما أعلنه سيف الإسلام السبت الماضي، وبدا للبعض نوعا من الانقلاب. ما قاله نجل العقيد ليس انقلابا، أولاً لأن القائل هو نجل العقيد، ولهذا دلالة غير معلنة. وثانيا لأن التصريح ينسجم مع سياق يجب استعادته لتبين مغزاه السياسي، وثالثا لأن مضمون التصريح لا يرقى إلى درجة الانقلاب الفكري. كان تصريحا جريئا، لكن لأن نجل العقيد هو الوحيد الذي يمكنه التفوه به يحيد تلك الجرأة، ويجعل منها جرأة شكلية من دون مضمون.
توقيت التصريح جاء قبيل احتفالات الفاتح، ومتزامنا تماما مع زيارة السيناتور ريتشارد لوغر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي إلى طرابلس، وهو أبرز أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، ومقرب من الرئيس بوش. وهذا التزامن يعيد إلى الأذهان مجموعة المطالب الأميركية من ليبيا بعد معالجة موضوع لوكربي، وهي ثلاثة: أولا التخلص من برامج أسلحة الدمار الشامل، والتعاون في مكافحة الإرهاب. والثاني البدء بعملية إصلاح سياسي داخل ليبيا استجابة مع متطلبات الديمقراطية في منظورها الأميركي، والثالث البدء بالانفتاح على إسرائيل، والتهيئة للتطبيع معها. تولى العقيد معمر القذافي بنفسه موضوع المطلب الأول، حيث سارع وبشكل لافت في ديسمبر 2003، وبعد الإعلان عن القبض على صدام حسين، بتسليم كل ما لديه مما يتعلق بذلك البرنامج من وثائق وخطط ومعدات إلى وكالة الاستخبارات المركزية. أما بالنسبة للمطلب الثاني المتعلق بالإصلاح فيبدو أن مهمته موكلة إلى نجل العقيد، سيف الإسلام، الذي انتهز زيارة السيناتور الأميركي لإطلاق تصريحه حول ما هو مطلوب من إصلاح سياسي داخل ليبيا.
وحقيقة أن نجل العقيد هو الذي تولى الإعلان عن إصلاح مأمول له معنى يصعب تفادي مغزاه. فنجل العقيد ينتمي إلى جيل الشباب المتطلع إلى المستقبل، وبرنامج الإصلاح السياسي بطبيعته برنامج متجه نحو المستقبل. الأهم من ذلك، وفي السياق نفسه فإن إعطاء سيف الإسلام دور المصلح في النظام السياسي يؤشر إلى تهيئة له، وتمهيد سياسي محسوب لأن يرث – مستقبلا- عن أبيه حكم ليبيا. نحن إذاً بإزاء حكاية عربية أخرى لتوريث السلطة.
فيما يتعلق بالمطلب الثالث، أو التطبيع مع إسرائيل، يبدو أن ليبيا اختارت أن تتعامل معه بأسلوب تدريجي وأكثر مواربة، مع تفهم أميركي لذلك. زيارة السيناتور الديمقراطي من كاليفورنيا، توم لانتوس تحديدا، باعتباره أبرز حلفاء إسرائيل في الكونجرس الأميركي، لطرابلس لأكثر من مرة، وسرعة انتقال ليبيا من دولة على قائمة الإرهاب الأميركية إلى محطة لزيارات المسؤولين الأميركيين، وأغلبهم أصدقاء لإسرائيل تؤكد أنه ليس هناك خلاف أميركي ليبي حول هذا المطلب.
إلى هنا يكون ما قاله سيف الإسلام جاء في نهاية سياق زمني يمتد طويلا، ليس هنا مجال استعراضه. الجانب الليبي من هذا السياق تناوله بالتفصيل صديق مقرب للعقيد ومتعاطف معه، هو الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه "كلام في السياسة". حسب هيكل، وهو محق في ذلك، بدأ السياق ليبيا من حيث كانت غلالة الحرب الباردة تسمح للعقيد ألا يكون متحفظا فيما يقول، وأن يتصرف أحيانا من دون حساب، وأعطى أمثلة على ذلك. كانت توازنات القوة الدولية آنذاك توفر حماية غير مقصودة للدول الصغيرة، وتترك مساحة لتجاوزات، ولممارسات لم تكن أكثر من استعراض لا يمس صميم تلك التوازنات. بدا الأمر وكأن الدول العربية، وبينها ليبيا، ذات وزن حقيقي في تلك التوازنات، مما ضاعف أوهام البعض. لكن لم يطل الوقت كثيرا بعد نهاية الحرب الباردة حتى وضح للعيان أن الدول العربية، وأولها ليبيا، مكشوفة بشكل يثير إغراء الآخرين وليس حذرهم. وبدأ يتضح أن غلالة الحرب البار