لنقل -جدلاً وافتراضاً- إن الانسحاب من قطاع غزة يُشكل بداية لسلامٍ ما، صاحب قرار الانسحاب أو "الانفصال" -كما يسميه- لم يقدمه في إطار مشروع للسلام. والذين صفقوا له في الولايات المتحدة وأوروبا والهيئة الرباعية الدولية يرغبون في أن يعتبروه خطوة نحو حل نهائي، لكنهم لا يخفون شكوكهم ومخاوفهم. كذلك لا ينظر إليه الفلسطينيون إلا كمكسبٍ متاح يريدون الحصول عليه، لكنهم يتوجسون من الثمن الذي سيسعى الإسرائيلي إليه لقاء ما يصوره على أنه تنازل... مع ذلك. لنفترض أنه حركة في الاتجاه الصحيح، فطالما أن هناك أرضاً تحررت، فلا بأس في أخذها كمنطلق لفتح صفحة جديدة في حياة الشعب الفلسطيني.
تعتقد الأوساط الدولية بأن الوصفة المطلوبة لإنجاح الانسحاب تكمن في الشروع بتجربة تنمية غير مسبوقة لجعل قطاع غزة منطقة واعدة وواحة للإعمار والازدهار. ومن أفضل المبادرات في هذا المجال إقامة مجموعة وحدات سكنية تبرعت بها دولة الإمارات العربية المتحدة لتُبنى مكان إحدى المستوطنات. وهناك مبادرات أخرى أقل وضوحاً وسخاءً، كتلك التي يدرسها مبعوث "الرباعية"، أو التي يعد بها البنك الدولي صاحب السمعة السيئة في العالم الثالث.
لكن المخططين لإنماء القطاع، ولا سيما حَسني النية بينهم، يفكرون في منطقة يفترضون أن أهلها انتقلوا من حال إلى حال أخرى كلياً، ولم يعد لهم همٌّ آخر سوى أن يجتهدوا ليتشبهوا بدبي أو بسنغافورة، وبالتالي، فإن المسألة لديهم مجرد مسألة وقت. هناك الكثير من المبالغة في الاعتقاد بأن غزة ستصبح بسرعة منطقة غير مبالية بمسار القضية الفلسطينية ومصيرها. وعلى رغم أن الشعوب انتهازية ومصلحية بطبيعتها، فإن فكرة انشغال غزة بمشاريعها وعدم التفاتها إلى ما سيحصل للضفة الغربية، تبدو من الأخطاء المكشوفة في الحسابات الشارونية فضلاً عن التوقعات الدولية.
ومن أهم أسباب هذا الخطأ أن خطط أرييل شارون مكشوفة هي الأخرى، حتى أنه حرص على إعلانها لئلا يتفاجأ أحد، فهو تخلى عن القطاع لأن المشروع الإسرائيلي فيه أخفق، لكنه مصمم على ابتلاع الضفة أو ما أمكنه منها وأعد لذلك مخططاً شاملاً يهدف من أساسه إلى إعادة نحو 40 في المئة من أراضي الضفة إلى الفلسطينيين. فهو بدأ ببناء الجدار العنصري ووضع التصورات لتوسيع مستوطنات الضفة مستنداً إلى خطة توسيع القدس، ثم نفذ "الانفصال" عن غزة بعدما حصل على "وعد بوش" بمساندة أطماع إسرائيل في أراضي الضفة، وبالتالي أصبح الآن جاهزاً للانتقال إلى المرحلة الثانية لرسم حدود إسرائيل على حساب الأراضي الفلسطينية.
إذا كان هذا مشروع سلام فإن شارون زرع فيه مسبقاً بذور إفشاله، واضعاً في حسابه أنه يستطيع في أي وقت أن يعيد احتلال ما ينسحب منه. الإسرائيليون لا يعتقدون بأن الحل النهائي مع الفلسطينيين سينبثق من المفاوضات وإنما يجب أن يفرض بالقوة. وهناك تعبير استخدمه يعلون ويختصر كل شيء، قال: "علينا أن نكوي طموحاتهم"، متحدثاً عن الفلسطينيين.
لأجل ذلك كان لابد أيضاً من المرور بـ"كي" طموحات المستوطنين، خصوصاً المتطرفين منهم، وقد اجتهدت إسرائيل لجعل إخلاء المستوطنات حدثاً إعلامياً محفوراً في أذهان العالم الغربي، فرأينا شباناً ونساءً وأطفالاً يبكون، ورأينا جنوداً يبكون، حتى إن شارون بكى، كما قال. أي خطة تنمية لقطاع غزة ستصطدم بالوضع المضطرب الذي سيستمر في عموم فلسطين. لذلك فإن التأخر في توضيح مصير الضفة سيعوق أي تنمية، بل إنها تتعطل تماماً كلما تبين أن الولايات المتحدة تتبنى أطماع شارون وتباركها. وإذا كان الانسحاب من غزة برهن شيئاً فإنه برهن على أن إسرائيل تعترف بأن تلك المستوطنات كانت أرضاً منهوبة. لابد للمجتمع الدولي من أن يستند إلى هذه الحجة ليضع حداً نهائياً لهذا النهب الباحث عن شرعية دولية.