تحت وصف الأعمال التاريخية حقاً يقع إنجاز المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة بإصداره "أطلس فلسطين" الذي يتوج فيه سنوات اهتمامه وإنتاجه الغزير حول أثر النكبة على فلسطين والفلسطينيين, وحول الأرض الفلسطينية من ناحية الملكية ومن كل الزوايا القانونية والحقوقية, وحول أحقية حق العودة الفلسطيني وإمكانيته. هنا نحن أمام عام 1948 المفصلي, بما سبقه من تواريخ جرَّت إليه, وما تبعه من كوارث ما زال الفلسطينيون يدفعون ثمنها إلى الآن. الأطلس يؤرخ لذلك العام, أو اللحظة التاريخية المتشعبة عنه, بكل دقة, يؤرخ لعملية الظلم التاريخي النادر الحدوث حينما تحولت فلسطين إلى إسرائيل: وهذه المرة بالخريطة, والجدول, بالصورة والمعلومة, بالكتاب والوثيقة. ولطالما احتاجت الأدبيات الفلسطينية المتعلقة بالتأريخ لنكبة فلسطين عملاً معمقاً وأكاديمياً من هذا الطراز, الذي للحق تعجز عن القيام به مؤسسات ذات فرق بحث وإمكانيات ناهيك عن فرد بذاته.
في قسمه الأول يقدم الأطلس خلفية تاريخية للصراع ولتصاعد المشروع الصهيوني, ثم رصد وتسجيل للأرض الفلسطينية قبيل قيام دولة إسرائيل, تليه متابعة تفصيلية للنكبة وآثارها واللجوء الفلسطيني وما آل إليه. ليس هنا تكرار ممل لما صار معروفاً, أو قراءة عاطفية رومانسية متحسرة, بل معالجة معمقة تستهدف القارئ الأجنبي وغير العربي لكنها صارمة في لغتها الحقوقية والإحصائية. ويبدأ الأطلس بتحديد حدود فلسطين مع مصر كما أقرت منذ سنة 1841 بين السلطنة العثمانية ومحمد علي باشا إثر انسحاب قواته من بلاد الشام. ثم تحديد حدود فلسطين مع لبنان وسوريا في اتفاقية 1906 بين السلطنة والانتداب الفرنسي, ولاحقاً مع البريطاني حول الحدود مع شرق الأردن. في كل من هذه الاتفاقيات نقرأ تفاصيل التفاصيل مرفقة بصور مسحية قديمة حول كل شريط من الشرائط الحدودية يبين القرى والمناطق التي مرت منها الحدود.
بعد انحسار الحكم التركي عن فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقيام الانتداب البريطاني, بدأت أمواج الهجرة اليهودية. ويرصدها الأطلس هنا بحسب السنوات والشهور, ونرى كيف تصاعد المنحى المدمر لتلك الهجرة. فما بين سنة 1920 و1946 دخل فلسطين أكثر من 376000 مهاجر يهودي. وبالطبع كان لابد من الصراع الحتمي مع أهل الأرض الأصليين, وهو الصراع الذي غضت الطرف عنه بريطانيا العظمى ولم تفعل شيئاً سوى إحالة الموضوع للأمم المتحدة التي بادرت سنة 1947 بإصدار قرار التقسيم. ينص القرار على منح اليهود ما نسبته 55,5% من أرض فلسطين لإقامة دولة يهودية عليها مقابل 43,7% للفلسطينيين, مع إبقاء القدس تحت السيادة الدولية. الأطلس يوضح بالأرقام والخرائط التفصيلية أن نسبة الأرض الممنوحة لليهود بحسب قرار التقسيم كانت خمسة أضعاف ما كانوا يمتلكونه على أرض الواقع. وأن عدد اليهود آنذاك كان لا يتجاوز النصف مليون. وفي المقابل فإن الأرض الممنوحة للعرب كانت أقل مما كانوا يمتلكونه على الأرض, وكان عددهم يتجاوز 1,36 مليون نسمة. أعداد السكان عشية قرار التقسيم وتوزيعاتهم الجغرافية موضحة في الأطلس بشكل مدهش: ففي كل مدينة وقضاء فلسطيني, وكل قرية مهما صغرت نجد جداول توضح نسبة الملكية بين العرب واليهود. في القسم الخاص بـ"أرض فلسطين" من الأطلس نجد مسحاً مدهشاً لأراضي المدن والقرى الفلسطينية, وعلى طول وعرض أقضية البلاد. يعتمد الأطلس على مجموعة هائلة من الوثائق والإحصاءات من عهد الانتداب البريطاني, وخاصة جداول "إحصاءات القرى" Village Statistics والتي كان قد أعدها البريطانيون لأول مرة سنة 1936 لتقديهما للجنة "بيل" الملكية التي ابتعثت لتدرس إمكانية وجود حل للصراع بين العرب واليهود في أعقاب مغادرة البريطانيين. "إحصاءات القرى" تلك ظلت سرية لعدة سنوات لأنها كانت تقدم الدليل تلو الدليل على فلسطينية الأرض وندرة التملك اليهودي في أرض فلسطين وتشتت وجوده. لكن في عام 1943 رفعت السرية عن تلك الإحصاءات وجعلت في متناول الجميع, كما تم تحديثها سنة بسنة. الأطلس يورد تلك الإحصاءات وهي جداول طويلة وثرية بالمعلومات التفصيلية عن كل قرية ومدينة من القرى والمدن الفلسطينية, وفيها مسح للأراضي من ناحية الملكية وفيما إن كانت ملكية للعرب أم لليهود أم ملكية عامة. فإزاء كل قرية من القرى نقرأ مساحة الأراضي التابعة لها, ثم في عمود آخر نقرأ نسبة الأراضي المملوكة من قبل العرب, والنسبة المملوكة من قبل اليهود. ويظهر من الجدول المهم تدني نسبة الملكية اليهودية إلى درجة لا يمكن مقارنتها بالتملك والوجود الفلسطيني المنتشر على طول وعرض القرى والمدن الفلسطينية. والمجموع التراكمي للملكية العربية هو 23 مليون دونم, بينما لم يزد المجموع التراكمي للملكية اليهودية على 1,5 مليون دونم, كما أن هناك 1,5 مليون دونم صنفت على أنها ملكية عامة, ويرى صاحب الأطلس أن هذه الملكية العامة كانت في الواقع ملكية عربية لكنها اعتبرت كذلك لأن تصنيف الأراضي كان يعتمد على نظام الجباية الضرائبية, وكان جزء كبير من