أبرزت التداولات السابقة لإقرار الصيغة النهائية للدستور العراقي الدائم خللاً خطيراً في البنية العراقية، خللاً ناتجاً عن غياب وتغييب مفهوم "المواطنة"، خللاً لاشك نتج عن سنوات من القهر والتهميش أنتجت هذه الفئات المتصارعة دينياً وعرقياً، سُنة أم شيعة... أكراداً أم عرباً أم تركماناً أم غيرهم. تتعدد الانتماءات المذهبية والعرقية والطائفية، نجدها تتبلور الآن وتعيد إنتاج نفسها من جديد بأطر مختلفة، والخاسر الأكبر لاشك هو العراق. فمنذ الاحتلال الأميركي للعراق والسقوط المزري لنظام صدام، بدأ الإعلام الأميركي، مدعوماً بمراكز البحوث والدراسات، يركز على تعزيز وتضخيم مسألة الانتماءات العرقية والمذهبية وبعد أن كان حزب "البعث" الحاكم المسيطر على الحياة السياسية والذي ينضوي تحته ملايين العراقيين جبراً قبل أن يكون اختياراً، استبدل الانتماء السياسي من "البعث" إلى الطوائف، وفي كلتا الحالتين كانت المواطنة للعراق غائبة عن المشهد العراقي، لذا فالخلل حقيقة ليس وليد الساعة بل إن جذوره للأسف تمتد منذ نشأة العراق الحديث.
فقد كانت المرحلة السابقة من تاريخ العراق السياسي تبدو ضبابية في تعزيزها لمفهوم المواطنة بفعل غياب مفاهيم الديمقراطية والمجتمع المدني وسيطرة فئات عسكرية وقبلية وجهوية كـ"تكريت" مثلا، في العهد الصدامي وهي عوامل تلعب دوراً رئيساً في إنضاج وترسيخ الشعور بأهمية المواطنة.
إن قضية المواطنة من أهم القضايا التي تواجهها الدول حديثة النشأة نسبياً، كالدول العربية، والتي تنازعتها في فترة نشأتها الأولى الأفكار القومية التي عززت من مفهوم المواطن العربي على حساب المواطنة لدولة ذات نطاق جغرافي محدد، وفي ذات الوقت كان الإسلام كذلك عاملاً، وإنْ يكن بشكل محدود، ولم يكن كالفكر القومي، فتظل صورة الانتماء للوطن ملتبسة مع الانتماء القومي، وهذا ما يتجسد - أوضح ما يكون- في القومية الكردية التي تتقاسمها عدة دول، وهي إشكالية لم تستطع الدولة الحديثة حلها بإلغائها أو احتوائها. وهي إشكالية تاريخية تظهر في العراق الآن أوضح ما يكون، فيصبح فيها الحديث عن قضايا خلافية تستند لانتماءات إثنية وعرقية وطائفية لها الأولوية على مسألة بناء العراق الجديد، فالمواطنة هي أساس مهم في البناء الدستوري والسياسي لأية دولة كانت. وتُجمع الدراسات الحديثة على أن مفهوم المواطنة يرتكز على عمودين أساسيين هما: المشاركة في الحكم، والمساواة بين جميع المواطنين. فالمواطنة ببساطة هي علاقة الفرد بدولته، والتي غالبا ما يحددها الدستور والقوانين المنبثقة عنه، وهي عبارة عن حقوق وواجبات المواطن من دولته ولدولته وهي بمجملها شبكة من الحقوق السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية التي يجسدها في النهاية الانتماء للوطن، لا تغليب لولاءات فرعية أو ثانوية.
يمر العراق الآن بمرحلة انتقالية، فالدستور الدائم للعراق سيشكل ملامح العراق الجديد، وسينعكس على مجمل الأوضاع في المنطقة، لذا كان التعاطي مع مسودة الدستور العراقي من أهم التحديات التي تواجهها اللجنة التي كلفتها الجمعية الوطنية العراقية لوضع مسودة للدستور الدائم قبل طرحه في استفتاء شعبي. ولا شك أن تأجيل إقرار مسودة الدستور من يوم الخامس عشر من أغسطس إلى اليوم يبرز الصعوبات والخلافات على قضايا رئيسية سترسم مستقبل العراق ولعل أبرزها: موقع الدين في الدولة، ودور الإسلام في التشريع، وشكل الدولة، والفيدرالية واللامركزية، ومشكلة كركوك، وحقوق الأقليات، وضمان حقوق المرأة دستورياً. فالواضح حتى الآن أن الإسلام سيكون "المصدر الرئيسي" للتشريع في العراق لا أحد مصادر التشريع كما كان الخلاف دائراً، وأن البرلمان سيراقب المبادئ الدينية. أما طرح فكرة فيدرالية العراق، فقد أثار موجة من الاستياء غير المبرر، خاصة في الأوساط السُنية العراقية ودول الجوار العربية باعتباره تجسيداً للمطالب الكردية أولا ثم الشيعية حالياً. وجسدت التحليلات التخوف من انحلال الدولة العراقية إلى دويلات ثلاث شيعية وسنية وكردية، وبدا بقايا القوميين العرب ينوحون في تحليلاتهم السياسية على وحدة الأراضي العراقية وعلى مستقبل سنة العراق، رغم أن من السذاجة السياسية الحديث عن تشكيل دويلات عراقية ثلاث في ظل التوازنات الإقليمية والدولية الراهنة، وهو حديث فيه مغالطة لشكل الدولة الفيدرالية المكونة أساساً من كيانات سياسية أو وحدات تشترك مع بعضها بعضاً في اتحاد توضع على رأسه سلطة اتحادية عليا تمارس صلاحيات يحددها الدستور الاتحادي وتتقاسم الاختصاصات مع الكيانات السياسية المحلية، والفيدرالية هي تجسيد للاستقلالية والمشاركة في ذات الوقت. ولعل التجسيد العربي للدولة الفيدرالية هو دولة الإمارات العربية المتحدة، وبغض النظر عن اختلاف التجربة السياسية بين دولة الإمارات والعراق إلا أن الشكل الفيدرالي للدولة كان حلاً وخياراً أثبتت تجربة قيام دولة الإمارات نجاحه بكل المقاييس، لذا فالفيدرالية ستناسب دولة كالعراق مكونة من أعراق وطوائف عد