انسحب الإسرائيليون من غزة تاركين وراءهم أرضاً محروقة. وهم إذا احتلوا أرضاً أحرقوا الأخضر واليابس عليها. وإذا انسحبوا منها فعلوا الشيء ذاته. الانسحاب اعتراف بأن الأرض ليست أرضهم، وأنها عادت إلى أصحابها، واعتراف بأنهم احتلال وقوة اغتصاب وبالتالي، يجب ليس فقط إعادة كل شيء إلى أصحابه، بل محاكمة المحتل، والتعويض عن الشعب الذي تعرض للإرهاب والقتل والحصار والعذاب والتشريد. ولكن من يحاسب إسرائيل؟! العالم يتعاطى مع شارون كأنه رجل خير يقوم بوثبة كبيرة نحو السلام كما قال تيري رود لارسن، ورجل كريم النفس وعزيز الأخلاق وهو ينسحب من أرض احتلها رغم ما فعله المستوطنون بها. عندما احتلوا مارسوا أحقادهم وعندما انسحبوا مارسوا أحقادهم. لا يريدون ترك بنى تحتية صالحة ولا يستحق الفلسطينيون استلام بعض الأبنية والأراضي المزروعة بعد أن استغلها المحتلون لسنوات طويلة وأقاموها على دمائهم! تماماً كما فعل الاستعمار الفرنسي في الجزائر وكما فعلت العنصرية في أكثر من مكان. مع العلم أن ثمة إسرائيليين مثل يوسي بيلين قاموا بمبادرات شراء بعض المنازل، وبعض المواقع ليقدموها إلى الفلسطينيين تأكيداً منهم على رغبتهم في السلام. لكن الشعور الغالب في صفوف الإسرائيليين وأركان الحكومة والجيش الإسرائيليين شعور عنصري حاقد ضد الفلسطينيين، الممنوعين من الدخول إلى المستوطنات "المحررة" قبل شهر، والخاضعين دائماً وأبداً لحصار والمعرضين دائماً وأبداً للقتل والتشريد لأن شارون المنسحب يحتفظ لنفسه بحق "الرد" على كل شيء والدخول إلى الأراضي التي انسحب منها ساعة يشاء إن هو وجد أن الفلسطينيين لم يوقفوا "إرهابهم"!
لا شك في أن الانسحاب هو ثمرة جهاد وصبر وعناد ومقاومة وتضحيات الشعب الفلسطيني. هو ثمرة المقاومة والانتفاضة. وليس ثمرة المبادرات والحلول السلمية والاتفاقات المنفردة. لقد أيقنت إسرائيل بكل جبروتها أنه مستحيل عليها الاستمرار في احتلال هذه المنطقة. وأنها عاجزة عن قمع ووقف الانتفاضة وروح النضال في صفوف الشعب الفلسطيني. ورغم كل التحولات الدولية والانحراف الأميركي الكامل نحوها، وخلو الساحة الدولية من أي قوة رادعة، وتراجع دور الأمم المتحدة، والتفرد الأميركي في القرار والسيطرة على الهيئة الدولية، ورغم التراجع العربي، وحالة الانهيار في العراق، واحتمالات الانفجار في عدد من الدول العربية، وحالات الحصار لدول أخرى مثل سوريا ولبنان، ورغم الاستفراد بالفلسطينيين، أثبتت التجارب أن الاحتلال مستحيل استمراره وأن إسرائيل غير قادرة على التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني. بهذا المعنى يمكن القول بالتأكيد أن الانسحاب هو إنجاز فلسطيني وهو تحرير حقيقي. ولكن ماذا بعده؟
بالتأكيد يجب حماية الانتصار والتحرير والبناء عليهما لتحقيق إنجازات إضافية. يجب أن يكون مقدمة لتحرير أجزاء أخرى من أرض فلسطين ومقدمة لفرض تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية وإذا كان الإسرائيليون ينسحبون ويؤكدون أن عمل المقاومة قد تطور في الفترة الأخيرة ويذكـّرون بدور المقاومة فـــي لبنــان - ويتهمون حزب الله بتدريب ورعاية "الإرهابيين " الفلسطينيين – ويتذكرون خسائرهم في الجنوب اللبناني – فإن هذا الأمر يشكل أيضاً قاعدة للعمل في المرحلة المقبلة لتحقيق مزيد من الإنجازات. ومن الضروري الاستفادة من التجربة اللبنانية مقاومة وتحريراً وما بعد التحرير. وهذا يتطلب:
- التأكيد على الوحدة الوطنية الفلسطينية وتثبيت الإجماع الفلسطيني على دور المقاومة المنظمة.
- تجنب الوقوع في الفخ الإسرائيلي المنصوب والهادف إلى توريط السلطة الفلسطينية في استخدام السلاح ضد فصائل الانتفاضة، وتجنب الاقتتال الداخلي الفلسطيني على السلطتين الشعبية والتشريعية وعلى التفرد في المناطق المحررة.
- المحافظة على مناخ التنافس الديمقراطي وإعادة بناء ما تهدم وعدم إعطاء الذرائع للإسرائيليين للانقضاض على إنجاز التحرير.
- التعاون لاستكمال معركة التحرير في الضفة الغربية، المرشحة لأن تشهد بعض مناطقها معارك كبيرة نظراً لاستهدافها من قبل الإسرائيليين الذين بدأوا بالترويـــــج أن "الإرهاب" فيها سينمو أكثر وبسرعة أكبر وبالتالي سيكون التشدد فيها والتعامل معها بقسوة عنوان المرحلة المقبلة.
- التركيز على أن خطوة التحرير بداية مرحلة جديدة لا تتوقف عند الضفة بل تتجه نحو القدس التي لا يزال الإسرائيليون يؤكدون أنها العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل وثمة تهديد للمسجد الأقصى.
- دعماً عربياً لإعادة البناء، وتعزيزاً لصمود الشعب الفلسطيني وتكريماً لشهدائه. فانتصار التحرير هو تعزيز للواقع العربي الأليم. هو انتصار لكل دولة عربية. ودعمه هو دعم للذات. ويمكن للعرب أن يستفيدوا منه بالجملة وبالمفرق كما يمكن للفلسطينيين أن يستفيدوا من الدعم العربي لهم. أما اعتبار التحرير شأناً فلسطينياً والتعامل مع المناطق المحررة كأنها مناطق فلسطينية خاصة، ومحاصرتها أو مراقبتها أو الضغط عليها في ظ