نظم جناح الشباب في الحزب الليبرالي الديمقراطي في هولندا في مدينة لاهاي في المسرح الكبير ندوة ليوم واحد بين أربعة من المفكرين، هولندي وبريطاني وأميركي وأنا، عن صدام الحضارات لتثقيف الشباب وتعويدهم على الحوار. فالحزب ليست مهمته فقط الوصول إلى السلطة إلا عند شيوخ الحزب بل مهمة شبابه التعلم والتثقف والتربية السياسية والوعي بروح العصر.
بدأ الهولندي، عجوز من أهل البلد ارستقراطي النزعة (بولكشتاين) من أصل ألماني وأستاذ في الجامعة التكنولوجية في ليدن، ببحث عن "الأصولية المستنيرة"، يدافع عن الاتجاه المحافظ التقليدي في الغرب، وينفي عنه تهمة التعصب والعدوان كما هو الحال في المحافظة الجديدة السائدة في البيت الأبيض وفي الإدارة الأميركية الآن والتي كانت وراء العدوان على العراق وأفغانستان. ومازالت تهدد إيران وسوريا ولبنان. يشعر بدونية أمام الغرب الكبير جعلت بحثه كله شرحا لبحث البريطاني. ويزهو بأن الغرب هو صاحب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1945، وينسى الإعلان العالمي لحقوق الشعوب الذي أعلن في الجزائر في سبعينيات القرن الماضي تتويجا لحركات التحرر الوطني واستقلال الشعوب. كما لم يعرف "الإعلان العالمي لواجبات الإنسان" الذي صدر منذ عدة سنوات وشاركتُ في صياغته مع هانز كنج اللاهوتي السويسري الحر ويورسو كيم الكوري مع هلموت شميت مستشار ألمانيا السابق، وأصبح وثيقة من وثائق الأمم المتحدة. كما يدافع عن القيم الغربية التي ذاعت في أذهان الناس مثل الديمقراطية دون أي نقد لها كما يفعل الليبراليون الجدد. فالديمقراطية تصور كمي وليست تصورا كيفيا. تقوم على تداول السلطة بين الأغلبية والأقلية. وفي المصالح العليا يتفق كلاهما كما هو الحال في الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان. فلا فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين، أو بين محافظين وعمال في بريطانيا. وفي العدوان على فلسطين لا فرق بين عمال وليكود. فالديمقراطية ليست غاية في ذاتها بل هي وسيلة لتحقيق منظومة من القيم. وليس لها شكل واحد، الديمقراطية التمثيلية طبقا لمبدأ صوت واحد لرجل واحد بل لها عدة أشكال مثل الديمقراطية التوافقية التي تقوم على إجماع الأمة كما يحدث في اليابان الحديثة أو في الإجماع في تراثنا القديم. وتتمثل قيمة الحرية في السوق والمنافسة أي الحرية الاقتصادية. وأعطى الغرب للعالم مفهوم التقدم دون تحديد لمستواه، المادي أو المعنوي، لطبقة خاصة أو لمجموع الناس، هل هو دائم أم يحمل الفناء فيه. والسلام قيمة جديدة بعد ملايين من البشر قضوا نحبهم في الحروب الأوروبية على مدى تاريخ أوروبا منذ نشأتها حتى الحرب العالمية الثانية. والآن تصدر أوروبا الحروب خارج حدودها باستئناف موجة جديدة من العدوان باسم العولمة وصراع الحضارات لتبتلع الدول الوطنية الحديثة التي تكونت إثر حروب الاستقلال.
والثاني بريطاني (جون جراي) أستاذ الفكر الأوروبي في كلية الاقتصاد بجامعة لندن، مغرور للغاية، يتكلم وكأنه معلم الجميع، أنفه إلى أعلى ولا ينظر إلى أحد. يتكلم كثيرا، ويسهب في الكلام دون تركيز على قضية. بغيته الانتشار وامتلاك المنصة وملء الفراغ. له بعض وجهات النظر النقدية. ومع ذلك الفكر الغربي لديه فكر شامل مع أنه أحادي النظرة، يعبر عن البيئة الأوروبية وحدها وليس عن الإنسانية جمعاء. يرد الشيء إلى ما هو أعلى منه فيقع في الصورية والتجريد أو إلى ما هو أقل منه فيقع في التجريبية والوضعية. ينقصه التوازن والتركيز على الثورة. ينتقل من الفعل إلى رد الفعل ثم يجمع بينهما في طرف ثالث. وينتهي إلى النسبية والشك ثم إلى اللاأدرية والعدمية. يبدو أنه من الليبرالية الجديدة أو اليسار الليبرالي ولكنه بريطاني أساسا مازال يعتبر نفسه سيد البحار.
والثالث أميركي (يان بوروما) من كلية بارد بنيويورك. واضح عليه التأدب والتواضع ولكنه إسرائيلي الاتجاه. يتكلم باسم مصالح إسرائيل. اشترك مع إسرائيلي في تأليف كتاب "الاستغراب.. الغرب في عيون أعدائه"، يؤرخ فيه للاتجاهات المعادية للغرب في آسيا وأفريقيا ويخص الحضارة الإسلامية بنصيب وافر. يرى أن ميزة الغرب الفصل بين الدين والدولة. والحقيقة أن الفصل هو بين السلطة الدينية والسلطة السياسية لفض الصراع بينهما على السلطة مرة باسم البابا ومرة أخرى باسم الإمبراطور. وكثيرا ما تسقط المشكلة على الحضارة الإسلامية. كما يتميز الغرب بالتعددية السياسية والاعتراف بحرية الفرد والتأكيد على ديمقراطية الحكم على عكس الحضارات الأخرى التي مازالت ترزح تحت الرأي الواحد والحزب الواحد ونظم القهر والتسلط. والحقيقة أن ذلك يرجع إلى أن الغرب واللاغرب، كل منهما يعيش لحظة تاريخية مختلفة عن الأخرى. فالغرب بدأ عصوره الحديثة منذ خمسة قرون ضد السلطتين الدينية والسياسية. وسجن وحرق وعذب المفكرون الأحرار بعد إدانتهم في محاكم التفتيش. فكل ما فيه الغرب الآن من مكاسب إنما أتى بعد نضال طويل من أجل الحرية والتعددية السياسية والعقد الاجتماعي والمجتمع المدني والدولة الوطنية