مؤلف الكتاب الذي نقوم بعرضه هنا وعنوانه:"ثلاثة ملايين رأسمالي جديد: التحول الكبير من الثروة والقوة باتجاه الشرق"، هو "كلايد بريستفيتز" المسؤول التجاري السابق في إدارة الرئيس ريجان، والرئيس الحالي لـ"معهد الاستراتيجية الاقتصادية" في واشنطن. وهو في هذا الكتاب يواصل النقد الذي كان قد بدأه في كتابه السابق "أمة مارقة". كانت فحوى ذلك النقد، هو أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة حظيت بتعاطف عالمي واسع بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن المظاهرات الصاخبة سرعان ما اندلعت بعد تلك الأحداث بشهور، كي تهتف ضد الولايات المتحدة ورئيسها، وتحرق علمها وتدوس عليه بالأقدام. وفي معرض تفسيره لذلك التحول، قام المؤلف ببيان الأسباب التي تدعو الكثير من شعوب العالم إلى كراهية الولايات المتحدة، والتي يرى أنها يمكن أن تتلخص في الهيمنة الأميركية على مقدرات العالم، ومحاولاتها الدائمة للتدخل في شؤون الدول والحكومات، وتعاملها بنوع من الفظاظة والغطرسة مع الدول والحكومات، دونما مراعاة لمشاعر شعوبها، مما أدى إلى تفاقم التوتر في النقاط الملتهبة في العالم بدءا من الشرق الأوسط وحتى كوريا الشمالية، وكذلك سياساتها الأحادية في التعامل مع القضايا العالمية بمعزل عن المجتمع الدولي والأمم المتحدة، وعدم اهتمامها بالقضايا التي تهم العالم مثل الإحماء الحراري، وتطهير مناطق الصراع السابقة من الألغام، وموقفها السلبي من المحكمة الجنائية الدولية، وقيامها بالتبشير بحرية التجارة في الوقت الذي تقوم فيه باتخاذ إجراءات حمائية لتدعيم أوضاع صناعاتها ومحاصيلها. ويواصل المؤلف ما بدأه من نقد في كتابه السابق، ويقول إن ادعاء أميركا أنها قائدة الديمقراطية في العالم، يتناقض مع سياساتها على أرض الواقع، والتي قامت من خلالها، وعلى مدى عقود بدعم الأنظمة الديكتاتورية في العالم، بدءا من إندونيسيا وحتى العراق. ويقول المؤلف في هذا السياق أيضا، إن العالم اليوم قد أصبح يخشى القوة العسكرية الأميركية الهائلة، وخاصة بعد أن ارتبطت تلك القوة الآن بما يعرف بـ"المذهب الاستباقي" أي قيام أميركا بضرب أي مصدر خطر محتمل، إذا ما رأت أن ذلك يحمي المصالح القومية الأميركية. بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى نقطة مهمة تمثل محور الكتاب، وهي تلك المتعلقة بتقلص القوة الاقتصادية الأميركية، بالمقارنة مع القوى الأخرى الكبرى الموجودة على الساحة الدولية. وهو يقول إن أسباب ذلك ترجع إلى تركيز الولايات المتحدة على السياسة، وعلى القوة العسكرية، باعتبارهما تمثلان أداتين للهيمنة والسيطرة على العالم. ويرى أنه في الوقت الذي ركزت أميركا جل اهتمامها على السياسة والعسكرة، كانت القوى الأخرى وعلى رأسها الصين والهند والدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي السابق، تركز جل جهودها على التجارة، وعلى التطوير الصناعي، وتقوم بتخريج العمال والموظفين الأكفاء الذين يعملون ساعات طويلة، ولا يتقاضون سوى مرتبات ضئيلة لا تقارن بالمرتبات التي يتقاضاها نظراؤهم الأميركيون. ويقول المؤلف إن محاولة الحكومة الأميركية مواجهة العجز التجاري، والعجز المالي الضخم في الميزانية، ومعالجة مستويات الادخار التي تدنت إلى الحضيض، والتصدي لمشكلة انخفاض كفاءة المؤسسات التعليمية الأميركية بكافة مراحلها، وتضاؤل الاستثمارات المخصصة للبحوث والتطوير، وتدهور التدريب العملي، والتأهيل المهني للوظائف، وانخفاض قيمة الدولار، والاقتصاد القائم على الديون، سوف تؤدي جميعها إلى تعرض الولايات المتحدة إلى (11 سبتمبر اقتصادي). وما يقدمه المؤلف من أدلة للتدليل على صحة رأيه بصدد هذه النقطة، يعتبر ترديدا لما قاله توماس فريدمان في كتابه الجديد (العالم المسطح) الذي صدر مؤخرا. بيد أننا إذا أمعنا النظر قليلا في محتوى الكتابين، سوف نجد أن التحليل الذي يقدمه "بريستفيتز" في كتابه هذا يعد أكثر عمقا من ذلك الذي قدمه فريدمان، والذي يبدو فيه - فريدمان- وكأنه رئيس لرابطة مشجعي العولمة. وسبب هذا العمق يرجع إلى أن مؤلفنا ينطلق من واقع التجربة المباشرة في نقده، ويقدم لنا أدلة مقنعة على ما يذهب إليه، كما يقدم أيضا مقترحات للحل. وهو في هذا السياق يرى أن دعم أجهزة البحوث والتطوير، وخاصة في مجال التقنية الفائقة، هو الأسلوب الأمثل الذي سينقذ أميركا من ورطتها، وأنه بدون ذلك فإن المشروعات فائقة التقنية ستجد نفسها مضطرة إلى الانتقال إلى الخارج، لتشكل قاعدة انطلاق اقتصادي لقوى أخرى على الساحة الدولية. وينبه المؤلف في هذا السياق إلى حقيقة أنه وعبر العقدين الماضيين، قررت كل من الصين والهند والدول التي كان يتشكل منها الاتحاد السوفيتي السابق، التخلي عن "جنتها الاشتراكية" التي وعدت بها عمالها، ودفعت بهؤلاء العمال الذين يقارب عددهم الثلاثة مليارات نسمة، على طريق الرأسمالية، الذي كان محرما عليهم السير عليه من قبل. ويرى المؤلف أن هؤلاء الثلاثة مليارات عامل، هم الذين سينهون السيطرة الغربية الاقتصادية على العالم، التي استمرت لم