إننا غالبا لا نحترم أو نفهم أية حماسة دينية أو قومية سوى تلك التي تصدر عنا. ومع أن هذه النظرة القاصرة شكلت باستمرار فشلاً ذريعاً للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، فإنها وصلت في عهد إدارة بوش إلى مرحلة العمى التام الذي ينذر بالسقوط في الهاوية.
ولعل آخر تجليات هذه النظرة القاصرة هو التهديد المقنع الذي وجهه الرئيس بوش في نهاية الأسبوع الماضي إلى إيران على خلفية تعثر المفاوضات الصعبة مع الغرب حول برنامجها النووي حيث يقضي التهديد باحتمال قصف المنشآت النووية الإيرانية، أو حتى اللجوء إلى خيار الغزو كحل أخير. والمثير حقا أن يختار بوش الإدلاء بتعليقاته الطافحة بالوعيد من التلفزيون الإسرائيلي مضاعفاً من طابعها الاستفزازي بالنسبة للإيرانيين، وخصوصا أن إسرائيل لا تشكل فقط العدو الأكبر لإيران، بل هي الوحيدة التي تمتلك أسلحة نووية في المنطقة. ويبدو أن بوش لا يكفيه التلويح بمسدسه في وجه المتشددين في طهران، بل يريد الإمعان في إثارة غضبهم على الملأ وإحراج المعتدلين منهم.
وتبعا لحديث بوش على التلفزيون الإسرائيلي يبقى احتمال استعمال القوة وارداً حيث قال إنه في حال فشل الدبلوماسية "فإن جميع الخيارات مطروحة"، وأضاف مؤكداً "تعرفون أننا استخدمنا القوة في الماضي القريب من أجل توفير الأمن لبلدنا". غير أن اللجوء إلى استخدام القوة الاستباقية في الحرب على العراق هو بالضبط ما صعب من إمكانية الضغط على إيران للتخلي عن برنامجها النووي المثير للقلق. وبالرغم من هذا السعي المحموم وراء امتلاك الأسلحة النووية، فإن ما لا تدركه الأطراف جميعا هو أنه لا الإيرانيون، ولا حتى الأميركيون بوسعهم تعزيز أمنهم بالاعتماد على قدراتهم النووية. فالأسلحة النووية هي في الأصل أسلحة إرهابية، ولن يخفف من خطرها سوى خضوع جل الدول النووية إلى المراقبة الدولية لضمان عدم انتشارها أو خروجها عن قواعد السلامة التي حددتها الهيئات الدولية ذات الصلة. ومع أن إيران تقول إنها تنشد فقط الطاقة النووية السلمية، إلا أنه لا يمكن أخذ أقوالها على محمل الجد. وفي حال رفضت إيران الامتثال للتفتيش الدولي والتحلي بالشفافية، فإن مجلس الأمن له الحق في فرض عقوبات على طهران.
بيد أن بوش كان عليه أن يتسم بالحذر أكثر وألا يسارع إلى الإدلاء بتصريحاته من منطلق أخلاقي، خصوصا وهو نفسه رئيس الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت الأسلحة النووية ضد البشر، كما أنها الوحيدة التي مازالت تنتج الجيل الجديد من تلك الأسلحة. ناهيك طبعا عن احتضان الولايات المتحدة للبرنامج النووية لبعض حلفائها مثل باكستان والهند وإسرائيل. والأكثر من ذلك أن التوقيت الذي اختاره بوش ليطلق جعجعته الكلامية كان غير مناسب بالمرة. فلم يمر سوى أسبوع واحد على إحياء العالم للذكرى الستين على ضرب هيروشيما وناجازاكي بالسلاح النووي، وقد أشار عمدة هيروشيما بكل جرأة إلى النفاق العالمي حيث قال "إلى مواطني الولايات المتحدة نقول: إننا نفهم قلقكم وغضبكم عندما تتذكرون ما حدث في 11 سبتمبر، لكن هل تعتقدون بأنكم أصبحتم أكثر أمنا بسياسات حكومتكم التي تحتفظ بـ10 آلاف سلاح نووي؟".
هذا وليس من الصعب كشف التناقضات والحماقات التي تميز سياسة بوش تجاه إيران. فمثلا ما الجدوى من تهديد إيران علنا بينما نعرف أن ذلك يعزز قبضة المتشددين الوطنيين والأصوليين المتدينين في طهران؟ كيف غاب عن ذهن بوش أن هؤلاء الناس الذين يسيطرون على السلطة في إيران كانوا على الدوام يقدمون أنفسهم كحماة للشعوب الإسلامية من الإمبريالية الغربية؟ وفي الواقع نحن في وضع لا نحسد عليه في تعاملنا مع إيران بسبب احتلالنا الكارثي للعراق المجاور. فقد أتاح الوضع الحالي في المنطقة وتحديدا ما يجري في العراق من انفلات أمني أوراقا كثيرة لإيران يمكنها استخدامها ضد المصالح الأميركية وقتما شاءت. فليس خافيا تحالفها مع أكبر القوى العراقية المتمثلة في الزعماء الشيعة حيث سيشكل أي غزو محتمل لإيران خطرا كبيرا على القوات الأميركية في العراق. وتصوروا إذا ما قامت إيران بإرسال حرسها الثوري المتطرف إلى العراق، فإن ذلك سيجعل الوضع الحالي بكل سوءاته أفضل بكثير مما سنشهده حينها، حيث من المتوقع أن يعيش الجنود الأميركيون أياماً عصيبة تحفل بالعنف والمواجهات الدامية مما سيزيد من ارتفاع عدد القتلى الأميركيين.
وليست التحديات العسكرية هي كل شيء بالنسبة للولايات المتحدة في حال غزوها لإيران، بل هناك ما هو أكثر خطورة. فمعلوم أن إيران تعتبر واحدة من أكبر الدول المصدرة للنفط وهي تساهم بذلك في توفير قسط كبير من الطاقة في الأسواق العالمية المتعطشة للمزيد منها. لذا سيفكر العالم ألف مرة قبل أن يساند أميركا في أية مغامرة جديدة قد تؤدي إلى قطع إمدادات النفط، لا سيما في وقت ارتفعت فيه الأسعار إلى عنان السماء. وقد تبدى هذا الحذر العالمي جلياً حيال مقاربة بوش الخطرة في التصريح الذي أدلى به المستشار الألماني جيرهارد شرودر يوم الأحد الماضي رداً ع