اتفاق السلام السوداني لا يواجه خطراً وشيكاً، هذا هو ما يبدو الآن بعد أكثر من أسبوعين على مصرع مهندس هذا الاتفاق جون قرنق، ولكن السودان نفسه هو الذي يواجه خطراً آجلاً إذا أدى غيابه إلى إضعاف إمكانات الحفاظ على وحدته. فكان دور قرنق أحد أهم دوافع التفاؤل بأن يؤدي تطبيق الاتفاق إلى إعادة بناء السودان موحداً بشكل طوعي، ومن شأن غيابه أن يثير السؤال عن مستقبل السودان وليس عن مصير اتفاق السلام.
ومع ذلك كان القلق شديداً من عواصف سياسية تعصف بالاتفاق، مثلما أسقطت عواصف الطبيعة الطائرة التي استقلها قرنق وفق ما هو مرجح. لم يتبدد القلق تماماً، ولكنه بات أقل بعد ترجيح مسؤولية عواصف الطبيعة، وليس مؤامرات السياسة، عن مقتل قرنق. فهناك ما يرجح فرضية أن الحادثة تعود إلى سوء الأحوال الجوية في أدغال الجنوب. وفي كل الأحوال فأي تحليل للسيناريوهات المحتملة للحادثة ينتهي إلى استبعاد السيناريوهين الأسوأ من حيث تأثيرهما على اتفاق السلام، وهما أن يكون للحكومة السودانية دور مباشر أو غير مباشر في تحطم الطائرة، أو أن تكون عناصر معارضة لقرنق في الجنوب هم الذين أسقطوها. ويتساوى في ذلك أن يكون هؤلاء من داخل حركته "الحركة الشعبية لتحرير السودان" على خلاف معه، أو من حركة أو فصيل آخر في الجنوب.
ومع استبعاد هذين السيناريوهين الأسوأ، يكون اتفاق السلام قد نجا من تداعيات مصرع قرنق حتى إذا تبين أنه قضى بفعل تدبير إجرامي وليس نتيجة قضاء وقدر. فالسيناريوهات الأخرى بعيدة عن السودان وترتبط بأوغندا وصراعاتها سواء الإقليمية أو الداخلية.
وإذ يتواكب ترجيح عدم وجود أيدٍ سودانية وراء مصرع قرنق، مع الإرادة السياسية القوية التي أبداها طرفا اتفاق السلام في الخرطوم وفي الجنوب، والإصرار على مواصلة الطريق التي رسمها هذا الاتفاق، فلابد أن يتراجع القلق على مستقبله.
غير أن شيئاً، وربما الشيء الكثير، من القلق يحسن أن يبقى في الفترة المقبلة لخلق استنفار لدى الأطراف المعنية جميعها. فثمة حاجة ملحة لبذل أقصى جهد ممكن للعناية باتفاق السلام والحرص على حسن تطبيقه.
لقد خلق غياب قرنق صعوبات، أو قل إن الصعوبات التي كان حلها يعتمد على أسلوب قرنق وطريقته في إدارة المشكلات واحتوائها ستصبح أكبر، ولذلك بات واجباً إحلال سؤال عن تداعيات غياب قرنق على نتيجة تطبيق اتفاق السلام محل السؤال عن أثر رحيله على الاتفاق نفسه، فلم يعد ثمة خطر على استمرار الاتفاق والمضي قدماً في تنفيذه. ولكن الخطر أصبح أكبر على نتيجة تطبيق الاتفاق عندما يحل موعد استفتاء الجنوبيين لتقرير مصيرهم للاختيار بين الاستمرار جزءاً من السودان الموحد أم الانفصال.
فالمعضلات التي كان الأمل في حلها كبيراً يمكن أن تدفع باتجاه الميل إلى الانفصال، إذا حال غياب قرنق دون حلها. ويمكن الإشارة إلى ثلاث من أهم هذه المعضلات: الأولى تتعلق بهيكلية الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي نشأت باعتبارها حركة تمرد. صحيح أن هدفها الذي حدده قرنق كان تحرير السودان من الاستبداد والاستغلال والمركزية الشمالية التي أدت إلى تهميش الجنوب وأهله، وإعادة بناء البلد بكامله على أساس من المواطنة والعدالة والمساواة، ولكن سبيلها إلى هذا الهدف كان عسكرياً قتالياً، وهيكلية الحركات السياسية تحددها في الأساس طريقتها في إدارة الأمور. وهكذا بنيت الحركة على أساس عسكري، وكان للميليشيا التابعة لها الدور الجوهري. ولذلك كان طبيعياً أن يأتي الرجل الثاني فيها من القيادة العسكرية وليس المدنية، وهو سيلفا كير مارديت رئيس أركان "الجيش الشعبي". وتغيير هذه الهيكلية لتلائم مرحلة السلام ليس سهلاً، وكان قرنق هو الأقدر على إجراء هذا التغيير.
وثمة معضلة ثانية، هي إشراك القوى الجنوبية الأخرى في عملية السلام، وحل خلافات "الحركة الشعبية" معها. وهذه خلافات كبيرة على الأقل مع بعض القوى مثل "قوات دفاع جنوب السودان"، وكانت هذه مهمة صعبة على قرنق شخصياً، وقد أصبحت أكثر صعوبة. وترتبط بهذه المشكلة خلافات على بعض المناطق، ومن أهمها القضية التي فجرها تقرير مفوضية "أبيي"، فقد رفضت قبائل المسيرية العربية، الحدود التي حددها هذا التقرير لأنه منح الجنوبيين مناطق لم يطالبوا بها من الأصل، وليست هذه إلا واحدة من مشكلات عدة من هذا النوع.
أما المعضلة الثالثة، فهي تغيير الأجواء السلبية التي تسود جنوب السودان تجاه الشمال، فهذه الأجواء صنعتها أهوال الحرب الأهلية والمعاناة الإنسانية الفادحة التي نجمت عن تهميش الجنوب وإهماله، وتغيير هذه الأجواء أكثر من ضروري إذا أردنا الحفاظ على وحدة السودان عندما يحل موعد استفتاء الجنوبيين لتقرير مصيرهم، هذا التغيير يصنعه فعلان مترابطان، هما العمل التنموي على الأرض لتحسين أوضاع الجنوب، والعمل الثقافي-السياسي لتعزيز ثقافة الاندماج والمواطنة. وإذا كان العمل التنموي هو دور الحكومة وأجهزتها، فالعمل الثقافي لتغيير ثقافة سائدة، يحتاج إلى شخصية جنوبية كاريزماتية تستطيع مخاطبة الناس والتأثير