يعيش قطاع غزة مع تواصل الانسحاب الإسرائيلي وغروب الاحتلال الذي جثم على صدره 38 عاما لحظات تاريخية من مسيرته الكفاحية الطويلة سواء بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي انتظر هذه اللحظات بإيمان لا يتزحزح بحقه في أرضه ووطنه، أو بالنسبة للجانب الإسرائيلي الذي تراجع أمام أسطورة الصمود وحقائق التاريخ والديموجرافيا، ولم يكن أمام شارون ''أب الاستيطان'' سوى الخروج من غزة لتتنفس هذه الرقعة الممتدة على ساحل المتوسط بطول لا يتجاوز 45 كيلو مترا نسائم الحرية وتبدأ منها أولى خطوات إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
على مدى السنوات الثماني والثلاثين من عمر الاحتلال الإسرائيلي كانت غزة شوكة في حلق المحتل وتمنى رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين الذي اغتيل على أيدي اليمين الإسرائيلي المتطرف أن يصحو ليجد قطاع غزة وقد ابتلعه البحر، وشكل القطاع الذي يعتبر الأكثر كثافة في عدد السكان على مستوى العالم بمساحته التي لا تتجاوز 360 كيلومترا مربعا نقطة ملتهبة وعرين المقاومة منذ عام 1967، وانطلقت منه الشرارة الأولى لانتفاضة الحجارة في ديسمبر عام 1987 والتي شكلت بسنواتها الثمان مفصلا مهما في تاريخ القضية الفلسطينية وتحولا غير قواعد الصراع وقاد إلى اتفاقيات أوسلو عام 1993 ودخول منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات عام 1994إلى الأراضي الفلسطينية وبدء المسيرة السلمية في المنطقة التي تعثرت عقب اغتيال رابين وأخرت معها استحقاقات إقامة الدولة الفلسطينية ونسف اتفاقيات أوسلو، وأعاد شارون بعد زيارته الاستفزازية إلى المسجد الأقصى وانتخابه رئيسا للوزراء الإسرائيلي العملية السلمية إلى المربع الأول لتندلع الانتفاضة الثانية ''انتفاضة الأقصى'' في سبتمبر 2000 والدخول في دوامة جديدة من الدماء والضحايا وفشلت رهانات شارون على إخماد الانتفاضة وكسر إرادة الشعب الفلسطيني·
تجربة السنوات الخمس الماضية من المواجهات المتبادلة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي والوقائع الجديدة على الأرض أثبتت أن القوة لا تحسم المشكلات العالقة ولابد من الرجوع إلى الخيار السياسي الذي قبل به الشعب الفلسطيني ويدعمه الجانب العربي، وما يحدث في غزة اليوم يمكن البناء عليه واستثماره لتطبيق خريطة الطريق وإقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة والاستمرار، وهذا الظرف يشجع المجتمع الدولي خصوصا الدول الراعية للعملية السلمية تكثيف جهودها لاستثمار هذه اللحظات التاريخية والمناخ الايجابي لإنجاز عملية السلام الشامل والعادل في المنطقة ونأمل أن تكون غزة التي بدأت منها شرارة الانتفاضة الأولى الخطوة الأولى لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف·