تـُتَعْتِعُ مريم بعربيتها المكسرة معزوفة "درويشية" سحرتها: "هو هادئ وأنا كذلك, يحتسي شايا بليمون وأشرب قهوة, هذا هو الشيء المغاير بيننا". تمرر مريم يديها على جذعها النحيل يعبر سنته الحادية عشرة وتتابع "هو يرتدي مثلي قميصا واسعاً ومخططا وأنا أطالع مثله صحف المساء. هو لا يراني حين أنظر خلسة, أنا لا أراه حين ينظر خلسة, هو هادئ وأنا كذلك". تعصر وجهها حيناً وتبسطه حينا آخر, تتمثل الموقف وتمثله, تتابع الأداء. صوتها الرقيق تكاد تخنقه الحروف العربية المفخمة, لكن تشد على تلك الأوتار كي لا تخذلها فيطلع الكون كله أغنية بديعة من الفم الصغير. تتحرق ليوم لندني هادئ ستقرأ فيه القصيدة أمام التلاميذ والمدرسات والآباء والأمهات في مدرستها جنوب المدينة حيث لا يوجد مهاجرون أو ملونون! منطقة "بيضاء" شبه مغلقة, سيسمعون للمرة الأولى في حياتهم شعراً فلسطينياً! تلوح بيديها يميناً ويساراً وتغرق في القصيدة: "يسأل الجرسون شيئا, أسأل الجرسون شيئا, قطة سوداء تعبر بيننا فأجس فروة ليلها, ويجس فروة ليلها". كاثي, أمها, تحكي لنا كيف تعلقت مريم بقصائد درويش رغم عربيتها المعيقة. كاثي نفسها تكسر بالعربية الفلسطينية التي تعلمتها بعد زواجها بعبد وخلطتها بأبو العبد وأم العبد في سلوان القدس. مريم أقنعت مدير المدرسة بأن تقرأ القصيدة بالعربية, وأن تسأل صديقة لها لتشاركها الأداء فتقرأها بالإنجليزية حول طاولة تتوسطهما: كأنهما تمثلان القصيدة, تتلمسان حروف توجسها وسؤالها الثقيل البليغ. كاثي فرحت بموافقة المدير, ونقلت لنا الخبر حكياً بدا راقصا جذلا ... كأن لم تكن تحكي. عبد مكث أياماً يسأل كيف يترجم إلى الإنجليزية "ويجس فروة ليلها" – تمازحنا, قلنا: هذه فلسفات محمود درويش يا أبو الشباب, حلها لنشوف!
نصفق لمريم مشجعين ومنصتين كي تتابع, فتفعل: "أنا لا أقول له السماء اليوم صافية وأكثر زرقة, هو لا يقول لي السماء اليوم صافية وأكثر زرقة. هو المرئي والرائي, أنا المرئي والرائي, أحرك رجلي اليمنى, يحرك رجله اليسرى". أم العبد جدة مريم, وأبو العبد جد مريم يزوران لندن حيث الإبن المغترب, ويحضنان مريم بعد كل بيت من الشعر. نتجاور على الكراسي أمام المجدلية كأنما في صف مدرسي, نرجوها للمرة الألف أن تتعتع على مسامعنا النشيد الدرويشي: ... هو هادئ وأنا كذلك!
مريم لا يسعها العالم الصغير, أيام قليلة ويكون الحفل, تنتظر وننتظر. ففي ذلك اليوم الصغير ستكون مريم نجمة: تقرأ بالعربية في مدرستها الإنجليزية قصيدة فلسطينية سؤالها الإنساني كتاب فلسفة كبير. تدندن مريم: "أدندن لحن أغنية, يدندن لحن أغنية مشابهة. أفكر هل هو المرآة أبصر فيه نفسي؟ ثم أنظر نحو عينيه ولكن لا آراه, فأترك المقهى على عجل, أفكر ربما هو قاتل أو ربما هو عابر قد ظن مثلي أني قاتل... هو خائف وأنا كذلك". تشرق ابتسامة مريم بعيد كل يوم مدرسي, تعود للبيت, وتقضي المساء تتمرن مع صديقتها على القصيدة في حديقة البيت الصغيرة. أمسيات وصباحات بريئة تتقافز فيها بالعربية والإنجليزية حروف الشعر من أفواه صغيرة. تطير حروف القصيدة وتهبط بسلام طفلي في الحديقة: مريم ترش محمود درويش ندى وبنفسج في "كواوير" حديقتها, فتزهر لندن كلها. تمر المساءات على القصيدة والحديقة, والكل ينتظر يوم الحفل وساعة الصفر! ساعة ترش مريم ندى محمود درويش ومداه على مدرستها والحضور الإنجليزي الذي لن يلتقط اسم الشاعر, الذي هو الآخر ما دار بخلده أن حروفاً هادئة من قصيدة هادئة له ستنبت دمعاً سخياً في عيون لندنية. وسيقرأ هناك في حي على يمين السياسة من شفاه مريم, خليط فلسطين وإيرلندا. وسيسمعها أبو العبد, وأم العبد, وعبد, وكاثي, وأم كاثي, وأبو كاثي, وكلنا جميعاً, من يترقب اليوم الجميل.
يأتي يوم موعود آخر, لكنه بشع, وتأتي ساعة صفر غير موعودة تفيض بدم بريء. تشهق مريم الرقيقة بالبكاء, ويجثو محمود درويش في حديقتها مطرقاً... من القاتل؟ تتساقط حروف القصيدة حرفاً حرفاً, خريفا لا أوان له, كأنما يبست قبل أن تحيا. نحيب مريم بالكاد تتلقط كاثي من شهقاته الكلمات: "مدير المدرسة ناداني وأخبرني بأنهم ألغوا قراءة القصيدة لأن الجو مشحون بعد تفجيرات لندن ولم تعد القصيدة تلائم الحفل". انفجرت كاثي بالغضب, ذهبت على التو لمدير المدرسة, وشتمته. قالت له هذه القصيدة أصبحت تلائم المناسبة أكثر من أي وقت سابق, وخاصة بعدما فعل القتلة ما فعلوه في لندن. شرحت له أن القصيدة تبحث في الذات والآخر عن القاتل الظني, تقفز من عقل ضحية إلى عقل ضحية كلاهما يظن الآخر قاتله. كاثي ما زالت غاضبة حتى اللحظة. مريم ما زال قلبها الطفولي الصغير جريحا حتى اللحظة. كنت قد قلت لها سوف نسجل قراءتك القصيدة على شريط فيديو ونرسله إلى محمود درويش نفسه. طارت من الفرح. وطار إلى السماء حماسها. الآن مريم تتمتم بحزن صغير هو ما عاد هادئاً ... وأنا ما عدت كذلك. هو ما عاد هادئاً ... ولندن لم تعد كذلك. اغتالوا من شفاه مريم الضحكة, وقطعوا ذراعي لندن الدافئتين