لقد كانت هذه السنة رائعة لإفريقيا بكل المقاييس، حيث شهدت وعوداً بتخفيف الديون عن الدول الإفريقية ونظمت حفلات موسيقية للفت الانتباه إلى المشاكل المستعصية، فضلا عن تعهد قادة الدول الثماني الكبرى بتقديم المزيد من الدعم للقارة السمراء. وقد أحسست بسعادة غامرة عندما رأيت كل هذا الاهتمام العالمي بإفريقيا. ولكن في أثناء ذلك كان هناك صوت ما بداخلي يقول "مهلا، ليس تلك هي الطريق التي تتحقق به التنمية الحقيقية". فإذا كانت مليارات الدولارات قد تدفقت على الدول الإفريقية بعد استقلالها في شكل مساعدات إنمائية لماذا إذن تستمر الهوة في الاتساع بين القارة الإفريقية وباقي العالم بدل أن تُردم وتضيق؟ والمشكلة أن الجهات المانحة للمساعدات دأبت على إملاء الوصفات الإنمائية على إفريقيا دون استشارة أهلها. فطيلة الثلاثة عقود الماضية لم تنتهج الحكومات الإفريقية سوى تلك البرامج التي وضعتها المؤسسات الأجنبية كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والهدف هو الحصول على أكبر قدر من المساعدات. ورغم فشل تلك البرامج، إلا أننا مازلنا لم نتعظ من الدرس الذي يجعل سلوك طريق التنمية المفروضة خارجيا مآله الفشل. فالطريق الوحيد لكي تقلع عربة إفريقيا وتمضي في اتجاه التنمية المنشودة هو بحصول توافق بين ركاب العربة والسائق على الوجهة التي يريدون السير في اتجاهها.
وقد أتيحت لي الفرصة يوما ما أن أكون سائق تلك العربة. ففي إرتيريا حيث كنت مسؤولا عن التنمية ووزيرا للمالية خلال سنوات الاستقلال الأولى من إثيوبيا في 1991 قررنا الإمساك بمستقبلنا. ولسنوات لاحقة قمنا بالتخطيط للتنمية وتطبيق برامجنا الخاصة. وبالرغم من أن عودة الصراع قوضت تلك الجهود، إلا أنني أعتقد أن الدرس كان جديرا بالاحتذاء في باقي القارة الإفريقية. فبعد قتالنا المرير مع جارتنا القوية إثيوبيا زحفنا منتصرين إلى أسمرة عاصمتنا المحررة. وفي هذا الصدد اعتمدت إرتيريا على قدراتها الذاتية لتستوعب آلاف النازحين والمعطوبين نتيجة سنوات الحرب الطويلة،خصوصا أننا كنا متخوفين من فقداننا لسيادتنا في اتخاذ القرارات التي غالبا ما تكرسها المساعدات الخارجية. كما أن الحكومة لم ترد أن تقف مكتوفة الأيدي أمام المواطنين وهي تعلمهم بفرض الرسوم الدراسية فقط لأن الجهات المانحة نصحت بذلك. لقد أردنا لشبابنا أن يحلم بالعظمة، بدل أن يعملوا كسائقين عند الموظفين الأجانب الذين يأتون في إطار تقديم المساعدات. كما أردنا لخبرائنا أن يخوضوا تجربة الأعمال الخاصة لينهضوا بالقطاع الخاص بدل أن يكتفوا بتدبيج المشاريع والمقترحات التي لا تنتهي على شاكلة المنظمات غير الحكومية.
وبالرغم من التزامنا بسياسة السوق الحرة وخصخصة الشركات العامة، إلا أننا أدركنا منذ البداية الحاجة الملحة لإعادة هيكلتها قبل الشروع في بيعها. ففي سنوات التسعينيات قمنا بالاعتماد على استراتيجية للخصخصة معقولة ومدروسة لمعالجة الدمار الذي ألحقته الحرب بالاقتصاد الوطني. وفي وقت سابق اقترحت علينا إحدى الحكومات الأجنبية مساعدات تقدر بـ15 مليون دولار شريطة قيامنا بخصخصة 50% من الشركات التابعة للدولة خلال ستة أشهر. ولأننا لا نستطيع القيام بذلك في تلك الفترة الوجيزة، كما أن التسرع في بيع الشركات العامة قد يدخلنا في نفس الأزمة التي عاشتها روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد رفضنا ذلك الاقتراح دون تردد. غير أن حاجتنا للمساعدة خلال سنوات الاستقلال الأولى دفعت بالعديد من المنظمات للاستقرار في إرتيريا. وسرعان ما أدركنا أن تلك المنظمات تستغل المساعدات لتوظيف عمالها ومنح الفرص للأشخاص التابعين لها. وبما أننا كنا نؤمن بأن 90 سنتا من كل دولار يجب أن تذهب إلى المستفيدين، فقد اختلفنا معهم في كثير من المواقف. ومع أن المنظمات كانت تتعهد بتطبيق ذلك، إلا أننا اكتشفنا أن الفتات فقط هو ما يصل الناس.
ولعل أوضح مثال هو ما لاحظناه خلال فترة عمل تلك المنظمات في أسمرة حيث فوجئنا بالموظفين الحكوميين يقومون بمهامهم على متن سيارات رياضية. وعندما استوضحنا الأسباب وجدنا أن تلك السيارات الرياضية ليست حكومية، بل منحتها للموظفين المنظمات غير الحكومية العاملة في البلد. ولتصويب هذا التبذير في الأموال قمنا بسحب تلك السيارات ووضعناها في محطة عامة ليستفيد منها الأهالي الذين يريدون التوجه إلى المناطق القروية حيث تصلح تلك السيارات لاجتياز الطرق الوعرة. لقد كانت رؤيتنا لعمل المنظمات غير الحكومية هي أن تلعب دورا مكملا للعمل الحكومي، وأن تلتزم تلك المنظمات بالأولويات التي نحددها نحن وتعمل على تلبية الحاجات الأكثر استعجالا، فضلا عن مسؤوليتها المباشرة اتجاهنا. لقد رأينا كيف أن الحكومات الإفريقية طيلة العقود الأخيرة عرضت سيادتها للخطر بتبنيها نماذج اقتصادية مفروضة من الخارج، وكان همها الوحيد هو الحصول على المزيد من المساعدات الأجنبية. بيد أن تلك المساعدات لا تسهم سوى في تعطيل عجلة التنمية، حيث تلجأ المنظمات المانحة إلى التركيز على قطاعي ا