المحك الحقيقي لأي دستور هو مدى قدرته على مواجهة المشكلات والأزمات التي يمكن أن تهز استقرار أي نظام سياسي. والعراق الآن يمر بأزمة، ودستوره الجديد هو الذي سيساعد على تحديد ما إذا كان شعبه سيسير على طريق المستقبل المشترك، أم سينزلق إلى هاوية الحرب الأهلية.
في أواخر عام 2003 كان الشعب الأفغاني يتصارع مع الكثير من القضايا التي يواجهها الشعب العراقي اليوم ومنها على سبيل المثال: تقاسم السلطة بين المجموعات العرقية، ودور الإسلام في النظام القضائي، والمساواة بين الرجل والمرأة ووجود القوات الأجنبية.
وفي ذلك الوقت حدثت ثلاث أزمات قامت بوضع الدستور هناك على المحك، بعد أن تم التصديق عليه في يناير 2004. أولاها حدثت بعد عشرة أيام فقط على وضع الدستور موضع التطبيق، وذلك عندما أعلن كبير القضاة بالمحكمة العليا، وهو رجل دين إسلامي محافظ، أن الدستور "غير إسلامي" وبالتالي غير قانوني، لأنه يسمح ببث شرائط فيديو لنساء يقمن بالغناء على شاشة التلفزيون الوطني.
كان الموضوع محل الخلاف هو دور الإسلام في النظام القضائي. وعلى الرغم من أن كبير القضاة قد ادعى أنه هو صاحب الاختصاص والصلاحية في تقرير ما الذي تعنيه كلمة "إسلامي"، إلا أن الحقيقة هي أن تصرفاته لم تكن دستورية لأن المسألة القانونية المتعلقة بظهور النساء على شاشة التلفزيون لم تكن مطروحة أمام القضاء، ومع ذلك فإن كبير القضاة تجاهل جميع الإجراءات القانونية، وأعلن قراره الخاص في هذا الشأن وكأنه حاكم بأمره.
الذي حدث بعد ذلك أن وزير الثقافة والإعلام المسؤول عن محطات التلفزيون رفض إطاعة أمر كبير القضاة. وربما كان قراره في هذا الشأن هو القرار السليم في المدى القصير، ولكن الحقيقة هي أنه أسس عند اتخاذه له لسابقة خطيرة وهي قيام الفرع التنفيذي من السلطة بتجاهل فرعها القضائي.
والعراق بدوره يواجه الآن نفس التحدي الخاص بتعريف دور الإسلام في الدستور. ولتجنب الشقاق الذي واجهة نظام الحكم الأفغاني، فإن العراقيين يجب أن يكونوا حذرين عند قيامهم بتعريف، ووضع الحدود الخاصة، باستخدام الدين كسلاح سياسي.
أما الأزمة الثانية المتعلقة بالدستور الأفغاني فقد أثارها أمير من أمراء الحرب. فوفقا للدستور الأفغاني كانت الحكومة المركزية في كابول هي المسؤولة عن تعيين محافظي الأقاليم وغيرهم من المسؤولين، وكانت هي المسؤولة أيضا عن تحصيل عوائد الجمارك. ولكن الذي حدث هو أن أمير الحرب هذا ويدعى "إسماعيل خان" ومليشياته الخاصة، كانوا يتحكمون في عدة ولايات تقع غربي البلاد. ومن خلال ذلك، كان الرجل يقوم بجمع الرسوم الجمركية على البضائع المنقولة عبر الحدود ويحتفظ بها لنفسه. أما موظفو الحكومة الرسميون فقد كان يتم تجاهلهم، أو حتى مطاردتهم ودفعهم لمغادرة المنطقة.
وعندما اندلع قتال بالأسلحة النارية بين ميلشيات "خان" وبين منافسيه المعينين من قبل الحكومة، قام حامد قرضاي بمساعدة من الجيش الأميركي، بإرسال وحدة من الجيش الوطني لإيقاف القتال والإطاحة بإسماعيل خان. ولكن جنود خان قاموا بإحراق مكاتب الحكومة والمكاتب التابعة لمنظمات دولية في مدينة "هيرات". وعلى الرغم من أن الهدوء عاد إلى المنطقة بعد عدة أيام، إلا أن التوتر ظل قائما كما ظل الموضوع الخاص بتقاسم السلطة بين الحكومة المركزية والمناطق دون حل.
الأزمة الدستورية الثالثة وقعت بعد أن تم انتخاب قرضاي رئيساً في أكتوبر 2004. فالدستور كان ينص على أن مواطني أفغانستان الحائزين على جواز أجنبي لا يجوز لهم التعيين في مناصب وزارية ما لم يقوموا بتسليم جوازاتهم الأجنبية تلك، أو يتم عقد استفتاء خاص في البرلمان يتم بموجبه الموافقة على تعيينهم. ولكن معظم الشخصيات التي اختارها قرضاي للحقائب الوزارية، كانت قد أقامت خارج أفغانستان لسنوات طويلة، ولم تكن لديها الرغبة في تسليم جوازاتها الأجنبية، أو التخلي عن الجنسيات الأخرى التي كانت قد حصلت عليها، كما أنه لم يكن قد تم انتخاب برلمان بعد كي يقوم بالموافقة على تلك الاستثناءات.
وقد قال بعض مستشاري قرضاي إنه كان يمتلك صلاحية إجراء التعيينات لأنه لم يكن هناك برلمان. وقد رفض السياسيون الأفغان المنتمون إلى المعارضة هذا الرأي في ذلك الوقت، وقالوا إنه لم يكن من حق الرئيس تعيين وزراء يحملون جوازات سفر أجنبية.
وتواصلت الأزمة لعدة أسابيع، وتعطلت الحياة السياسية في العاصمة، وفي النهاية قرر قرضاي أن يعلن بشكل واضح أن الدستور يلزمه بعدم تعيين أي شخص لا يريد أن يتخلى عن جنسيته الأجنبية. وعلى الرغم من أنه اضطر للتخلي عن بعض الأشخاص الذين قام باختيارهم لشغل مناصب الوزراء بسبب ذلك، إلا أنه وجه رسالة مؤداها أنه ملتزم كرئيس ببنود القانون والدستور، وأن تلك البنود أهم من أي اعتبارات أخرى، وأهم من شخصية أي وزير كان ينوي تعيينه.
إن أصعب قرار يواجه القادة في العراق وأفغانستان أو أي ديمقراطية أخرى هو ذلك الخاص بتحديد ما إذا كانوا سيلتزمون بقواعد القانون أم لا. فالدستور في النهاية ليس إلا م