هزّت التحولات الدولية، منذ السنوات القليلة المنصرمة، الفكر العربي وما تزال تهزه، في ما يُعتبر "ثوابته"، مثل "الأمة" و"القومية". وأخذ ذلك يظهر في عدة تجليات، تبرز منها الدعوة إلى المذهب "الليبرالي"، وقدمت العولمة نفسها عالمياً بمثابتها حاملاً لذلك المذهب. وبرزت مناقشات ومماحكات بين مجموعات من المثقفين والمفكرين والسياسيين العرب، ناهيك عن أمثالهم في الغرب حول واقع الليبرالية وآفاقها. إن المحور الحاسم في ما قُدم من أفكار "ليبرالية" يستند إلى منطلقات جيوسياسية و"أنثروبولوجية"، مع تأكيد مضخم على خصوصية منطقة شرق البحر المتوسط. وفي مثل هذه الحال، يجري الاستشهاد بقولٍ لأحد علماء الآثار الفرنسيين، وهو أنه" لكل إنسان وطنه إضافة إلى الوطن السوري"، تأكيداً على بنية سوريا التاريخية "الفسيفسائية" المنفتحة. بيد أن ذلك إذا ما أخضع لتحليل تاريخي وبنيوي، فلعله يُظهر أدلة لا تقود إلى ما قادت إليه تلك الأفكار الليبرالية. فالكيانات "الدولتية" السياسية والاقتصادية التي نشأت في المنطقة عبر مراحل تاريخية متعددة، قدّمت -في شخصها- أدلة واضحة على أنها لم تكن "منطقة عبور -ترانزيت" لمختلف الحضارات والثقافات، بقدر ما مثلت "مِهاداً" لها. أما الاعتقاد بأن ما ميّز هذه المنطقة إنما هو غياب الكيان السياسي الثقافي والاقتصادي، فإنه يأتي مطابقاً لمطالب العولمة بإنهاء الدول وتفكيك الحدود في أنحاء العالم. وعلى النقيض من ذلك، نلاحظ أن استمرار الطابع العربي الإسلامي، ها هنا، إنما كان تعبيراً عن وجود مثل ذلك الكيان، الذي تجلى في التاريخ العربي الإسلامي خصوصاً في الدولة الأموية المديدة في سوريا.
وثمة مسألة على غاية الأهمية المنهجية، على صعيد ما نحن بصدده، وهي أن المذهب الليبرالي في عمومه كما في صيغته المطروحة ضمن أوساط سياسية وثقافية سورية راهناً، ينطلق من "الطرد الحرّ" من حيث هو الوحدة المؤسّسة للكيان الدولتي الليبرالي المطلوب. وأصحاب هذا الموقف يرون أن الانطلاق من "المجتمع" إنما هو انطلاق من "مجتمع عقائدي ملتزم في خدمة عقيدة أو مبدأ أو قائد أو شعار، بعكس الانطلاق من الفرد الحر في عقيدته وفكره وإرادته". ومن ثم، فـ"حقوق المواطن قبل الأمة والدولة والأيديولوجية وقبل الدستور وقبل القانون". وإذا سرنا إلى النهاية مع هذا الموقف الفكري الليبرالي، فإننا سنجد أنفسنا أمام الأسئلة التالية (وهي أسئلة تُطرح في أوساط من المهتمين السوريين): هل يمثل "الفرد الحر" منطلقاً للمجتمع الليبرالي، دون أن يجعل من هذا المجتمع بقعة لصراع مفتوح عابث بين الأفراد "الأحرار"، أي بين أفراد يرى الواحد منهم أنه هو نقطة الانطلاق باتجاه الآخرين؟ كيف لمثل هؤلاء الأفراد أن يؤسسوا مرجعية إنسانية لهم، دون أن يفعلوا ذلك في سياق المجتمع العمومي الناظم؟ ألا يلاحظ أن هذه المقولة إنما تُحيل إلى الفيلسوف البريطاني هوبز، صاحب القولة الشهيرة بأن "الإنسان ذئب للإنسان"؟ وأخيراً، كيف يمكن التحدث عن "ولادة عقد اجتماعي" يؤسس لمجتمع جديد في سوريا وفي غيرها من البلدان العربية، كما يحلم أولئك؟
إن الأساس النظري المنهجي للدعوة الليبرالية إذ يقوم على مفهوم "الفرد الحر"، فإنه يجد نفسه غير قادر على الوصول إلى مقولة "المجتمع". ولما كان الأمر على هذا النحو، فإننا نقدم الأطروحة التالية، التي تتصل بالكيان الليبرالي المعاصر "الأكثر ليبرالية" وهو الولايات المتحدة الأميركية، يفتقد أي مجتمع أو كيان بشري -بما فيه هذه الولايات المتحدة- إمكانية تطبيق مذهب الليبرالية بقضها وقضيضها، لأن المجتمع البشري لا يحتمل ذلك، مما يتيح القول إن هذا المذهب إنما هو عبارة عن أيديولوجيا تنطوي على عنصر كبير من الوهم. ويهمنا من ذلك جميعاً أن مشروعاً إصلاحياً ديمقراطياً في سوريا كما في العالم العربي يجد نفسه أمام ضرورة التفكير في الدولة الوطنية الدستورية و"الرعائية"، هذه الدولة ستجد نفسها مضطرة للاستناد إلى السواد الأعظم من الناس، ولكن دون الإطاحة بهوية الوطن، مع تأكيد على إنتاج "عقد اجتماعي جديد".